"إن شاء الله"، بهذه الكلمات المقتضبة أجاب سعد الحريري، رئيس الوزراء اللبناني المستقيل، على أفراد عائلته الذين تواصلوا معه عبر هاتف منزله في الرياض بعد استفسارهم عن تاريخ عودته إلى لبنان، ما يزيد من غموض الاستقالة الفجائية التي أدلى بها الأسبوع الفائت في تسجيل مصور بث حصريًا على قناة "العربية" السعودية، ويعزز كذلك ما أثارته وسائل إعلام متعددة من ممارسة ضغوط سعودية لإجباره على الاستقالة، ووضعه تحت الإقامة القسرية بحراسة من الأمن السعودي.
الرياض لم تظهر اتجاه الحريري أي "احترام"
توافقت معظم روايات وسائل الإعلام الغربية حول تسلسل الأحداث المرتبطة باستقالة سعد الحريري من منصبه. وتولى الحريري رئاسة الوزراء بناء على اتفاق بين القوى السياسية اللبنانية يقضي بانتخاب ميشال عون رئيسًا للبنان مقابل تكليفه بتشكيل حكومة لبنانية تنهي الفراغ السياسي الذي استمر قرابة 29 شهرًا، في بلد وجد نفسه منخرطًا بالأزمة السورية الراهنة رغمًا عن إرادته، الأمر الذي سبب توترات دائمة بين شرائحه المجتمعية تصاعدت أجوائها اعتبارًا من عام 2013.
وكالة "رويترز" كشفت في تقرير أن الحريري منذ لحظة وصوله إلى الرياض تمت معاملته بعدم "احترام"
وكالة "رويترز" كشفت في تقرير نُشر أمس السبت أن سعد الحريري منذ لحظة وصوله إلى الرياض تمت معاملته بعدم "احترام"، وأنه تمت مصادرة هاتفه المحمول، وفي اليوم التالي طلب منه عبر اتصال هاتفي الذهاب لحضور اجتماع مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وبعد أربع ساعات من الانتظار طلبوا منه أن يقرأ خطاب الاستقالة لبثه عبر التلفاز.
اقرأ/ي أيضًا: استقالة طفل السعودية "المدلل".. انتحار الحريري سياسيًا بخطاب مسجل
ويعزز رواية وكالة "رويترز" التي تقول إنها حصلت عليها عن طريق مصدر مقرب من الحريري، مع ما ذكرته صحيفة "واشنطن بوست" في تقرير نشرته باللغة العربية على موقعها الرسمي، ويقول ديفيد إغناتيوس معد التقرير إن سعد الحريري دعي في اليوم الذي تلى وصوله إلى الرياض لاجتماع مع ابن سلمان في الساعة الثامنة صباحًا، واختفت مع الدعوة "البروتوكولات المعتادة"، ولم يرافقه في الطريق للاجتماع إلا حرسه الخاص.
وبعد ساعات من إعلان سعد الحريري استقالته، أعطى ابن سلمان الإذن بتنفيذ أكبر حملة اعتقال في تاريخ المملكة الحديث طالت عشرات رجال الأعمال بعد توجيه تهم لهم مرتبطة بالفساد وغسيل الأموال، ويشير إغناتيوس في تقريره أن الحريري أقام يومي السبت والأحد في فيلا بمجمع "ريتز كارلتون" الفاخر الذي حوله بن سلمان مقر احتجاز للشخصيات التي أمر باعتقالها في إطار حملته الرامية لإسكات الأصوات المعارضة توليه منصب ولي العهد.
أسباب الاستقالة الفجائية
ويدحض تقرير "رويترز" التكهنات التي ربطت بين استقالة الحريري، والحملة التي نفذها بن سلمان في السعودية لتطال 11 أميرًا من بين الأشخاص الموقوفين في "ريتز كارلتون" لمساومتهم على أموالهم وفق ما نقلت صحف غربية بالاستناد إلى مصادرها من داخل المملكة، وبحسب صحيفة "النهار" اللبنانية تقدر ثروة سعد الحريري بواحد مليار دولار، فيما تصل ثروة شقيقه الأكبر بهاء لما يقرب 2,2 مليار دولار.
ويعطي تقرير رويترز انطباعًا عامًا حول الأسباب المباشرة لاستقالة الحريري، بعدما أكد مصدر مقرب من الحريري إبلاغه (الحريري) ثامر السبهان، وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج، بأن "موضوع حزب الله ليس موضوعًا محليًا.. لا تحملونا مسؤولية شيء يتخطاني ويتخطى لبنان"، ومثّل قرار الاستقالة صدمًة للفريق المقرب من الحريري بعدما كان مدرجًا على جدول أعماله ترأس اجتماع مع مساعديه في الخامس من الشهر الجاري غداة عودته من الرياض.
كما أن رواية "رويترز" تبدو متوافقة في مضمونها مع تصريحات ألكسندر جورجيني، نائب المتحدث باسم الخارجية الفرنسية، الذي علق على لقاء السفير الفرنسي في الرياض مع الحريري بإعرابه عن أمانيه بأن يحصل الحريري على "كامل حريته في التحرك ويكون قادرًا بشكل كامل على القيام بدوره الحيوي في لبنان"، في إشارة أخرى تقوي فرضية وضعه تحت الإقامة القسرية، وتقييّد حريته بالحديث مع وسائل الإعلام.
هل يصبح بهاء طفل السعودية في لبنان؟
صحيفة "الأخبار" اللبنانية، المقربة من حزب الله، كشفت الخميس الفائت، فيما قالت إنه عن مصدر أجرى اتصالات هاتفية مع أفراد من عائلة سعد الحريري المتواجدين في لبنان، إذ أبلغهم المصدر أن السعودية طالبت بحضورهم إلى السعودية لمبايعة بهاء الحريري زعيمًا سياسيًا لتيار المستقبل، وأن سعد الحريري وافق على ذلك بشرط "إطلاق سراحه، على أن ينتقل للعيش في أوروبا ويعتزل العمل السياسي"، وتقول الصحيفة إن العلاقة بين الشقيقين يشوبها خلاف حاد بسبب السياسة التي ينهجها سعد في لبنان.
الحريري ليس استثناءً، فكافة الأحزاب اللبنانية مرتبطة بتحالفات مع دول أجنبية تؤثر على قرارها السياسي داخليًا
وبحسب موقع "ميدل إيست أي" فإن سعد الحريري لا يمثل"استثناءً لبنانيًا" في زعامته السياسية للطائفة السنّية، كون كافة الأحزاب اللبنانية مرتبطة بتحالفات مع دول أجنبية تؤثر على قرارها السياسي داخليًا، ويرى الموقع أن سعد الحريري لم يقدم على خطوة الاستقالة لو لم يكن لديه يقين بأن السعودية قررت أن تبدأ مواجهة مع إيران في لبنان.
سياسة بن سلمان تزيد من التوترات في المنطقة
وكان ابن سلمان قبل أسبوع واحد من إعلان سعد الحريري استقالته التقى في الرياض جاريد كوشنير صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في زيارة سرية، وهو اللقاء الرابع بين الشخصين منذ وصول ترامب للبيت الأبيض، وبحسب مجلة "فورين بوليسي" فإن ترامب أعطى كوشنير مهام قيادة عملية السلام بين الدول العربية وإسرائيل، والأخير واحد من الأشخاص المرحب بزيارتهم لمكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة: حصار قطر حرب قذرة والسعودية دون استراتيجية في مواجهة إيران
وعلى الرغم من أن جميع المؤشرات تربط بمنح ترامب غطاءً للرياض من أجل تصعيد حملتها السياسية اتجاه إيران في المنطقة، لكنها في مطرح آخر تسجل تباينًا حادًا في مواقف إدارته بعدما قال وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون إنه إذا كان سعد الحريري يريد التنحي يجب عليه العودة إلى لبنان لجعل ذلك "رسميًا".
وفي أول تعليق على التقارير المتحدثة عن وضع سعد الحريري تحت الإقامة الجبرية في الرياض، نفى القائم بأعمال السفارة السعودية في الرياض وليد البخاري أن يكون الحريري موجودًا تحت الإقامة الجبرية، وصباح الأحد نشرت وكالة الأنباء السعودية صورًة للحريري يظهر فيها بين المسؤولين الذين استقبلوا العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز من المدينة المنورة.
وجاءت الصورة بمثابة رد فاتر من الرياض على تقارير الصحافة التي تؤكد وضع الحريري تحت الإقامة القسرية، فضلًا عن محاولتها تجنيب نفسها أزمة دبلوماسية في المنطقة، بالأخص بعد معارضة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي المشاركة في عملية عسكرية ضد لبنان، وهو من أكثر الرؤساء العرب المقربين من تحالف الرياض – أبو ظبي.
واتهمت السعودية قبل يومين حزب الله اللبناني باختطاف مواطن سعودي في لبنان، وقال موقع سبق السعودي إن الخاطفين ربطوا الإفراج عن المواطن المخطوف بقضية استقالة الحريري، لكن الموضوع الذي كان متوقعًا أن يصبح متداولًا على نطاق واسع في وسائل الإعلام لم يلقَ كل هذا الصدى، ويبدو من خلاله أن السعودية ترغب بتجنب الحديث عن القضية حتى لا تبدو أنها متفاجئة من حجم الرد، الذي جاء بعد استهداف الحوثيين بصاروخ مطار الرياض في اليوم الموافق لحملة الاعتقالات، واستقالة سعد الحريري معًا.
يتلقى محمد بن سلمان دعمًا من ترامب عند إقدامه على أية خطوة، عن طريق تغريدات تويتر أم عبر إرسال موفدين بزيارات سرية إلى الرياض
وعليه فإن كافة المعطيات تشير أن بن سلمان الذي وصفت صحيفة "نيويورك تايمز" سياسته بأنها "أكثر عدوانية من الحكام السعوديين السابقين"، والتي تهدد بتأجيج الصراعات العسكرية في المنطقة أكثر من السابق ماضٍ قدمًا تنفيذ رؤيته السياسية التي تهدد المنطقة بتداعيات خطيرة قد ينجم عنها حرب إقليمية.
اقرأ/ي أيضًا: كوشنر وابن سلمان ونتنياهو.. ثلاثي المؤامرات الخفية
فالرجل يتلقى دعمًا عند إقدامه على أي خطوة من ترامب إن كان عن طريق تغريدات تويتر أم عبر إرسال موفدين بزيارات سرية إلى الرياض، كما أنه يلتقي مع ترامب في مشاعر الكره التي يحملها للسياسة الإيرانية في المنطقة، ورغم اعتبار محللين أن اشتعال حرب في المنطقة "أمرًا مستبعدًا"، فإنهم في مقابل ذلك أظهروا قلقهم من أن أي إجراءات سعودية جديدة في المنطقة ستزيد من التوترات الحالية ما يؤدي لنزاع مسلح يزيد من التدهور الأمني في المنطقة التي شهدت منذ بداية عقدها الثاني نزاعات مسلحة قائمة على مصالح ذاتية للدول المنخرطة بها.
اقرأ/ي أيضًا:
تسريبات جديدة للعتيبة تفضح المفضوح: أبوظبي غاضبة من دعم الدوحة لمقاطعة إسرائيل
اللوفر أبوظبي ليس مجرد متحف.. عن القوة الناعمة الفرنسية في عهد ماكرون