مصادفةً وقع في يدي كتاب الشيخ عبدالله العلايلي (1914 - 1996) "أين الخطأ" (دار الجديد، 1978) ومصادفة أيضًا حلول الذكرى العشرين لغيابه في الشهر الفائت، الذي يُخصص أحد أيامه يومًا عالميًا للغة العربية. هذه التقاطعات بالإضافة إلى مضمون الكتاب كانت كافية للغوص في عالم العلايلي اللغوي والفقهي.
العلايلي فَقِيه اللغة
كان العلايلي يرى، نتيجة بحث واجتهاد، أن اللغة هي "مجموعة من الأفكار والتقاليد والعواطف والأحاسيس والمشاعر والنزوات، وتلك المجموعة تنمو أو تموت بحسب حاجة الناس إليها، إذ إن اللغة تتحرك بقانون الغاية لا السببية… فإذا غلبت بقانون السببية البحت وأخضعت له في قسر وعنت، مثلما فعل قدامى اللغويين، تنعزل". وهو إذ يعرف اللغة ويحدد مكامن الخلل يحرص في الوقت نفسه على الإلمام بكامل المشهد اللغوي، فيضيف في كتابه "مقدمة لدرس لغة العربية": "لولا مرونة العربية الطبيعية، ولولا ما أفاض القرآن عليها من معنوية قوية، لوقفت فجأة ولتخلفت دفعة واحدة بدون هذا التريث البطيء".
كان حرص الشيخ عبد الله العلايلي على اللغة العربية حرص الحي على الحياة
يذهب العلايلي مذهبًا مختلفًا في تعريف اللغة، بعكس ما يشاع اليوم أن اللغة ليست إلا وسيلة للتواصل، إذ يعلن بشكل قاطع أن اللغة هي مادة الفكر وخامته وهي ليست فقط وسيلة التعبير عنه "كثيرًا ما يكون خيال الفكرة هزيلًا ليس على شيء من الإبداع العبقري وليس على شيء من الافتنان النافذ. ولكن لا تكاد تتناوله الألفاظ حتى تبعثه بعثًا آخر، وتخلقه خلقًا أوفى. فيه قوة ونفوذ ودقة وفحولة. وعليه فجانب من براعة الخيال يرجع إلى اللغة التي أفرغت عليه ما أفرغت وزودته بكل ما نسميه بسمو الفكرة".
اقرأ/ي أيضًا: رسائل إدوارد سعيد إلى صادق جلال العظم
من هنا كان حرصه على اللغة حرص الحي على الحياة، وقد تجاوز بالعمل والاجتهاد الشعور بالمرارة الظاهرة في كتابته على ما حل بلغتنا القومية. إذ اتخذ لنفسه شعارًا قام بتطبيقه طيلة سنوات عمره ألا وهو: "ليس محافظة التقليد مع الخطأ، وليس خروجًا التصحيح الذي يحقق المعرفة. فلا تمنعني غرابة رأي -أظن أنه صحيح- من إبدائه، لأن الشهرة لم تعد أبدًا عنوان الحقيقة، وأيضًا لا يحول بيني وبين رأي أنه قليل الأنصار، لأن الحق لم يعد ينال بالتصويت الغبي. فالانتخاب من عمل الطبيعة. هي لا تغالط نفسها. كما لا تعمد إلى"التزوير".
هذا الشعار أرفقه بمهمة دعا إليها اللغويين وانخرط فيها، وإن لم يلب دعوته أحد فيقول في المقدمة نفسها: "آن لنا أن نأخذ بمذهب الجد، وإلا وضعنا العربية في موضع قلق، ونحن إذا كنا نجد من مثقفة الجيل تريثًا وانتظارًا للنتائج التي ضمنتها لهم المجامع. فإن ناشئة الجيل سيلقون بكل ذلك حيث لا يركنون إليه، ولا يأبهون له، وسيقدمون على مقدم خطر جدًا، يعرض العربية للتلاشي السريع، أو الانقلاب المطلق الذي يجعل منها لغتين لغة القرآن ولغة تبتدئ في حدود القرن العشرين. وتبعة كل هذا إنما تقع على كاهل اللغويين وحدهم، الذين وقفوا موقفًا سلبيًا لا يحيد عما تواضعه سالفو اللغويين، من معقول لم يكن في أوله إلا وهمًا خاطئًا، ونتيجة درس غير مستقيم ولا محقق، كأكثر ما نرزح تحته من تقاليد وعادات، لم تكن في الواقع البعيد أكثر من مغالط صيرها التاريخ عقائد".
وفي نظر شيخنا الجليل، فإن لغتنا العربية هي لغة علم ومعرفة، إلى جانب كونها لغة أدب ولغة دين. وقد اعتبر أن تحول اللغة العربية الفصحى إلى لغة خارج الاستعمال اليومي، واستبدالها باللهجات العامية المتعددة، هو نتيجة للتخلف الذي وقع فيه علماء اللغة والمجامع العلمية. وقد اقترح في هذا المجال "تهذيب العامي القابل للتفصيح وإجراءه على موازين الفصحى، أو بإفساح الفصحى لتبني مفردات العامية التي ترجع إلى أصل فصيح ولو محرفًا، لكي تستقيم العامية المهذبة وتنتشر، وتعتمد في المناهج التعليمية وبذلك تقترب من اللغة الأدبية الرفيعة".
العلايلي فَقِيه الإسلام
الدين، لدى العلايلي، هو دين حياة بكل ما تقتضيه الحياة من جهد عملي وعلمي لتطويرها وتجديدها، من أجل خير الإنسان وخلاصه دنيا وآخرة. وقد تعامل العلايلي مع النص القرآنى كنص إلهي، فيما يتعلق بمسائل العبادات والمعاملات، وأخذ الأحاديث النبوية واجتهادات الفقهاء الكبار للاستئناس بالرأي في المسائل الأخرى، داعيًا إلى اعتماد العقل والعمل في شتى مجالات الحياة، لأن الأحكام على حد قوله: "تتغير بتغيّر الزمان والمكان والمقتضي في ذلك هو التيسير".
الدين، لدى العلايلي، هو دين حياة بكل ما تقتضيه الحياة من جهد عملي وعلمي لتطويرها وتجديدها
اقرأ/ي أيضًا: "ظل الريح".. حكاية المدينة مدفونة في مقبرة كتب
هذه الرؤية للدين يثبتها في مقولة أخرى حين يستنبط أن "جوهر الدين في غايته العليا هو الملاءمة والمواءمة بين الديانات جميعها ونبذ الفرقة". وفي تأكيد هذا المفهوم لدور الإسلام يقول العلايلي في مدخل كتابه "أين الخطأ": "وإذا كان الإسلام العملي مصدر إبداع، فقد صوره الحديث النبوي بما هو أجمع وأكمل: بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ، ولكن لا كما فهمه القدماء بظنهم أن كلمة "غريبًا"من الغربة، بل هي من الغرابة، أي الإدهاش، بما لا يفتأ يطالعك به من جديد حتى لتقول إزاءه في كل عصر: إن هذا لشيء عجاب".
والدافع الآخر لفهم العلايلي واجتهاده علميًا وعمليًا هو تشابه الأحوال مع ما وصفه الإمام مالك في قوله: "كان من قبلنا يعمدون إلى كتاب الله وسنة نبيه فيتلقون الأحكام. أما اليوم فنعمد إلى رغباتنا، ثم نبحث في كتاب الله وسنة نبيه عما يسندها ويشهد لها".
ولا يتوقف العلايلي عند هذا الحد في نقد الاستخدام الرغبوي لأحكام الدين في القرآن وفي السنة، إذ يرى: "… وهذه الشريعة العملية ينعكس فعلها في الفكر والمجتمع ومناهج السلوك، إذا ظلت أسيرة قوالب جامدة. وهذا ما حاذره المبعوث فيها في قوله الشريف: "إن الله يبعث لهذه الأمة، على رأس كل مائة سنة، من يجدد دينها". ومن موسوعية العلايلي أنه يضفي طابعًا علميًا على هذا الحديث بالإشارة إلى التغيرات التي تحصل في حياة الجماعات كل ثلاثة أجيال، مشيرًا في هذا الإطار إلى التغيرات التي تحصل في البنى الفوقية، ويسميها اشتقاقًا "النواهض"، وفي البنى التحتية، ويسميها "الخفائض".
في سيرة الشيخ عبد الله العلايلي الكثير من الاجتهادات والإسهامات المقرونة بالممارسة العملية، مما لا يتسع مقام واحد لعرضها. وللمرء أن يتساءل عن أسباب طمس إنجازات العلايلي في ميادين اللغة والفكر والتاريخ والسياسة وحتى الشعر. وإذا كانت حواضر العرب الْيَوْمَ تحتفي بالسينما والأدب "الشعر، القصة، الرواية" فكيف تهمل حقول اللغة والفكر؟
في العام 1944 كتب عبد الله العلايلي كتاب "المعري... ذلك المجهول"، وواقع حالنا الْيَوْمَ يقول: غدنا... ذلك المجهول.
المصادر:
1- مقدمة لدرس لغة العرب، المطبعة العصرية، القاهرة، 1936
2- أين الخطأ، دار الجديد، بيروت، 1978
اقرأ/ي أيضًا: