09-يونيو-2019

(Getty) غرافيتي للساروت

باستشهاده يوم أمس، متأثّرًا بجراحه التي أُصيب بها على جبهات ريف مدينة حماة الشمالي، سدّد الشهيد عبد الباسط الساروت، حارس الثورة وصوتها الأبقى، دينه للمدينة التي لطالما خاطبها طالبًا منها، نيابةً عن كلّ السوريين الأحرار، مسامحته عمّا حلّ بها على يد الأسد الأب في الثمانينيات. "يا حماة سامحينا، والله حقك علينا، انت مننا ولينا، وبالجبّار أملنا". قال حين غنّى أشهر أغانيه "جنّة جنّة جنّة، جنّة يا وطنّا، يا وطن يا حبيب، يا بو تراب الطيّب، حتّى نارك جنّة".

عبد الباسط الساروت، لو تتبّعناه، سنكتشف سريعًا أنّه حكايتنا كسوريين. وكذلك، حكاية الثورة السورية كاملةً

باستشهاده رسّخ كذلك في مسامعنا صوته وهو يقول: "كبار صغار منعرف انه، يلي بيقتل شعبه خاين". ولا نستطيع التعامل مع استشهاده إلّا بما قالته والدته: "استشهاد عبد الباسط قوّة الكم يمّة، الله بياخذ العزيزين حتّى يشدّ هممكم".

اقرأ/ي أيضًا: الثورة السورية تخسر حارسها.. مقتل عبد الباسط الساروت في ريف حماة

عبد الباسط الساروت، لو تتبّعناه، سنكتشف سريعًا أنّه حكايتنا كسوريين. وكذلك، حكاية الثورة السورية كاملةً، بكلّ تفاصيلها وتقلّباتها، منذ بداياتها وحتّى هذه اللحظة التي ترفض فيها أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، وتُراهن على معادلةٍ بسيطةٍ وواضحة، كان الراحل من أشدّ المؤمنين بها، كما جلّ السوريين الثائرين. معادلة تقول بأنّ لا حل للثورة إلّا النصر، وإن لم يكن النصر، فلتكن شهادة، المهم أنّ العودة إلى الوراء مستحيلة، وغير واردة أصلًا في حسابات الأحرار.

إنّه كذلك، وببساطةٍ شديدة، قصّة الثورة المروية شفويًا، وشبيهها بكلّ مراحلها. قصّتها يوم بدأت عفويةً وسلمية، يوم وقف وسط الأحرار يغنّي للحريّة وحدها، مُقدِّمًا وجهًا مدنيًّا بحتًا للثورة، لا يُمكن أن يُغادر ذاكرة السوريين. إنّه قصّتها يوم دفعها عنف ووحشية النظام إلى الانتقال من السلمية إلى العسكرة، فغادر الساحات والميادين دون أن يُغادرها، أي الثورة، وحمل السلاح لأنّ الحرية أسمى من أن يتراجع عن المطالبة بها لأنّ النظام يهدّده وكلّ الثائرين بالموت والتجويع والحصار، والنتيجة أنّ لا القصف ولا همجية العصابة الحاكمة استطاعت أن تجعل حارس الثورة يستنكف عمّا بدأه.

يروي الساروت قصّة الثورة يوم خُذلت وتُركت وحيدةً، ولا تزال. يوم صار تقاسم الغنائم والتسابق نحو الحصًة الأكبر أهم من إجبار النظام على وقف تدميره الممنهج لأحياء حمص القديمة، وتهجير ما تبقّى من أهلّها بعد حصارٍ مرير لم يُثني العزائم، وإن خرج في النهاية مخذولًا ومكسورًا من المدينة التي أحب، بعد أن دافع عنها، وغنّى لها، وغيّر وجهها للأبد. وهو أيضًا قصّتها حين ضاق أفقها، وحين بدأ بعض المؤمنين ينفضّون عنها، وحين اجتمع العالم ضدّها لا معها، وحين حاول البعض حرف مسارها، فزرع في جسدها داء الأيديولوجية والتكفير. حينها، لم يعد متاحًا للسوريين إمكانية أن يختاروا ما يريدون، فاختار الساروت، بفعل الخيبات المتراكمة، والخذلان المستمر للثورة، وتحت ضربات النظام وحلفائه المدمّرة والهمجية، ومدفوعًا باليأس، الانتصار للأيديولوجية.

حكاية مبايعة عبد الباسط الساروت لتنظيم داعش كانت مؤقّتة وقصيرة، وكذلك ميله نحو التشدّد. كان الأمر برمّته نتيجة لا قناعة مسبقة، أو انتماءً خالصًا، أو إعجابًا بفكر التنظيم الإرهابي كما نظام الأسد. مبايعته جاءت نتيجة الخذلان والغدر، وردّة فعلٍ لا أكثر على ما حلّ بالثورة آنذاك، دون أن ننسى أن العصابة الحاكمة بوحشيتها وبراميلها وصواريخها الكيماوية لم تترك حينها للسوريين خياراتٍ كثيرة. ولكنّ الساروت الذي اتّهم بالتشدّد آنذاك، سرعان ما انتبه لوحشية التنظيم، وتراجع عن خياره عائدًا مرّةً أخرى إلى الفصائل التي تُقاتل لأجل اسقاط النظام، لا لغاياتٍ أيديولوجية. مؤكّدًا أنّ الأخيرة تقود إلى طرقٍ كثيرة لا تؤدّي جميعها إلى الهدف الأصل، أي الحرية التي ظلّ طوال ثماني سنواتٍ يحنّ إليها.

كان لعودة الساروت هذه ومواقفه الجريئة من الفصائل الإسلامية ثمنًا سيدفعه حين يُبعد عن الشمال المحرّر نحو تركيا، هربًا من محاكمها، أي الفصائل، خصوصًا جبهة النصرة. وخلافه مع الأخيرة وغيرها كان قائمًا على إدراكه بأنّها ترتهن لأوامر المموّلين في قرار تجميد الجبهات أو فتحها، بينما كان يصرّ على قتال النظام وحلفائه حتّى اللحظات الأخيرة، مدفوعًا بالعاطفة والغيرة على الثورة، فهو من المقاتلين الذين تأخذهم العاطفة دائمًا، كما قال في أحد حواراته.

غير أن هذه العاطفة لم تأخذه يومًا بعيدًا عن الهدف الأساس؛ الحريّة وإسقاط النظام. ولم تدخله كذلك بازارات الدول الإقليمية والتحالفات التي فكّكت الثورة، ولم تدفعه للمراهنة على أي أحدٍ لتحقيق النصر، مكتفيًا برهانه على سلاحه وقدرته على القتال دائمًا، ومتّخذًا من شعاراتٍ كـ"يا الله ما إلنا غيرك يا الله"، و"الموت ولا المذلّة"، و"ع الجنة رايحين شهداء بالملايين" عناوين أبدية لمسيرته. ورغم معاناته على يد النظام كما الفصائل المتشدّدة التي استقطبته يومًا كما الكثير من السوريين، والمضايقات التي تعرّض لها، ومحاولات الاغتيال المستمرّة، ظلّ الساروت وفيًا لجمهور الثورة ولنفسه أوّلًا، مصممًّا أن يظلّ قريبًا منهم، وأن يرفض أي مكاسب مادية ممكنة، وأي شهرة محتملة توفّرها له الاصطفافات هنا أو هناك.

مشهد توجّه الساروت نحو جبهة القتال، في ريف حماة الشمالي، على دراجته النارية كان دليلًا ثابتًا على شغفه بمقارعة النظام حتّى اللحظات الأخيرة من حياته

كان عبد الباسط الساروت طوال ثماني سنوات ثوريًا عظيمًا، ومقاتلًا مندفعًا، لا يقبل أن تبرد جبهة وتُجمّد أخرى. مشهد توجّهه نحو جبهة القتال في ريف حماة الشمالي على دراجته النارية كان دليلًا ثابتًا على شغفه بمقارعة النظام حتّى اللحظات الأخيرة من حياته. وظهوره قبل ساعاتٍ من إصابته فرحًا بتحرير قرية تل ملح دليلًا أيضًا على أنّه لا يدافع عن ريف حماة لأن هذه المنطقة ضمّته وعائلته وكلّ الأحرار المهجّرين، وإنّما دفاعًا عن الثورة، هو الذي ظلّ مؤمنًا حتّى النهاية بأنّ أي بقعةٍ محرّرة، وإن كانت قرية صغيرة، تكفي لتكون دليلًا على أنّ الثورة لا تزال مستمرّة، وأن العمل الثوري، عسكريًا ومدنيًا، لا يزال ممكنًا.

اقرأ/ي أيضًا: نبيل الملحم: أغار من عبد الباسط الساروت

باختصارٍ شديد، أن نذكر عبد الباسط الساروت يعني أن نستعيد الصورة الأجمل للثورة، صورة المظاهرات الأولى، حيث الرجال والنساء جنبًا إلى جنب، وحيث الساروت إلى جانب الراحلة فدوى سليمان يهتفان للحرية وإسقاط النظام. هذا المشهد وحده ينفي عنه أي تهمة بالتشدد، كما ينفيها عن الثورة أيضًا. هذا المشهد هو ما سنذكره حين يمرّ اسم عبد الباسط الساروت، أو حين تُلفظ عبارة "ثورة"، ولا نبالغ إن قلنا أنّ الساروت هو الثورة، وأنّ الثورة هي الساروت. ولا نستطيع أن نودّعه إلّا بما علمّنا إياه طيلة سنواتٍ: "شهيدنا لا ما مات، زغردلّو يا البنات".

 

اقرأ/ي أيضًا:

رحيل فدوى سليمان.. صوت الثورة السلمية

مي سكاف والعزاء الممنوع