يرى الكاتب والشاعر الجزائري عبد الرزاق بوكبة أن العالم ثلاثي الأبعاد كما يصفه بدقة في كتابه الأخير "يدان لثلاث بنات" ويليه "بوصلة التيه" من إصدار منشورات "الجزائر تقرأ" 2017. يتضمن الكتاب سيرة تحكي حكايات صغيرة من يوميات الكاتب مع بناته الثلاث اللواتي شغلنّ حياته وشوشن عزلة الكاتب فيها، فحين طلب الخلوة مع نفسه قاصدًا الكتابة في إحدى ليالي رمضان منعته بناته من ذلك، فراح يفكر بين هجرة الكتابة أو هجرة البنات، فعزم على الأولى، وما لبث أن وجد حلًا مثاليًا لكاتبٍ أب. أخذ بناته معه إلى السرد وجالوا سويةً في اليومي الرمضاني للبيت والحارة وتفاصيل العائلة، حتى راح من خلالها يرصد تشكل الوعي عند بناته وتأثيره كأب عليهن وتأثيرهن عليه، الأمر الذي دفعه لإعادة اكتشاف نفسه بالعودة إلى ذكرياته طفلًا في عمر ابنته الكبرى علياء في قرية أولاد جحيش في الجزائر، حين كان راعيًا بعيون نبي بريء يتجول في عوالم القرية وحوادثها التي كانت بداية تشكل وعيه للعالم.
في "يدان لثلاث بنات"، يكتب عبد الرزاق بوكبة سيرته ذاتية كاتبًا وأبًا
تنمو سيرة عبد الرزاق بوكبة وبناته خلال ثلاثة أعوام متلاحقة، وتبدأ بعد أن يغلق الكاتب الباب على نفسه في أول أيام رمضان، ليفتح بابًا آخر يدخل منه الكاتب على وقع الموسيقى الكردية التي يحب، إلاّ أن أبوابًا أخرى تُشرع لا تنتظر الإلهام لتستيقظ في عقله، فتنهال بناته بالطرق والصراخ والبكاء.
اقرأ/ي أيضًا: عبد الرزاق بوكبة.. حشرجات السرد
هي أشبه بفاتحة على عوالم كتّاب السرد، ففي البدء يتحرك العالم ويغلي البيت ضد الكاتب، فليس بيد الأخير من حيلة إلاّ أن ينسحب إلى نفسه أكثر فيدخل بتقنية سينمائية "فلاش باك" ليفصل أجزاء يومياته الرمضانية المعطل نصفها في هم الكتابة ونصفها الآخر في إرضاء البنات، وليفصل فيها أيضًا الحاضر عن الماضي فيستطيع أن يرى نفسه بمرآة بناته وعنادهنّ. كما وتحضر شخوص الرواية غير المكتملة التي كان بصدد البدء بكتابتها، وتتصارع مع وقائع البنات الثلاث بغية رده إلى عزلته، فيطرد الكاتب مرات عديدة ويحتفظ بالأب.
لبنات عبد الرزاق بوكبة بعدٌ أسطوري في كتابه أو يمكن أن نطلق عليهن بطلاته الصغيرات، يدور العالم حول ملاحظتهن ورد فعلهن أمام كل جديد، فتبدو تلك العيون الصغيرة التي ترسم وجهات نظر بدائية عن العالم، مرتبطة بعيني الكاتب صغيرًا حين كانت القرية هي العالم الكبير. يعقد ما يشبه مقارنة مبطنة بين فطرة أطفال القرى البعيدة وما يقابلها عند أطفال المدن، لنعود ونقف أمام تطور الكاتب نفسه بدخوله للعاصمة الجزائر كاتبًا وصحفيًا وشاعرًا.
[[{"fid":"81071","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":305,"width":200,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]
يضع عبد الرزاق بوكبة نفسه تحت سطوة البنات وأبطال الرواية. "نريد كاتبًا عازبًا" تتمرد شخوص الرواية على الكاتب بعد أن أثارت بناته الضجة والذعر والصياح في البيت. تنتفض الشخوص دومًا في وجه التشويش ويتمرد الخيال "هز الصياح أركان البيت: أم علياء تصيح/علياء تصيح/ نجمة تصيح/ مريم تصيح". فتهدده الشخصيات التي انتظرته منذ رمضان الفائت بأنها ستغادره إلى شاعرٍ أعذب أو عاقر.
الخلوة الروائية المهددة دومًا بالكسر والتشويه من قبل البنات تبدو أكثر انسيابية وتماسكًا في بوصلة التيه. لربما هذا ما كان سببًا في كتاب يحوي نصين سرديين كلاهما في السيرة، ولكن لكل منهما شكل سردي ومضمون مختلف.
يبدو عبد الرزاق بوكبة الكاتب والصحفي المتمرد على التلفزيون الجزائري والمطالب بحقوقه في العمل مختلفًا عن ذلك الذي تأخذه أفكار بناته وأسئلتهن عن العالم وترمي به في مجاهل التذكر والخيال، بعيدًا عن عالم الكتابة الإبداعية. لنراه يسرد علينا تفاصيل دخوله العاصمة مكبلًا بالأحلام والرؤى الجديدة حينها ترك الشعر وراح يمسك بالسرد.
يقسم الكاتب عبد الرزاق بوكبة مراحل وعيه لمهنته وتجربته تلك ضمن أقسام بعناوين متشابهة "الرعاية السامية لـ..."، فيصف تجربةً ما مرةً تحت الرعاية السامية للراوي ومرةً للشاعر، ومرةً أخرى للتشرد والجنون والواقع وهكذا، نبني معه شخصيته الأدبية ليصل بنا إلى إضرابه عن الطعام إثر قرار أصدره التلفزيون الجزائري حيث كان يعمل في التنشيط الثقافي. فصلوه فتمرد على القرار وأضرب عن الطعام محتجًا على التعسف والظلم، لأن ترك العمل بالنسبة له هو قرار يأخذه العامل نفسه وهو واعي له، وليس قرارًا تتوصل إليه المؤسسة.
بالنسبة لعبد الرزاق بوكبة، الرواية وليدة الانتباه، ولهذا راح يكرس انتباهه لتغيير الذي أصاب شخصيته
هو من يقول إن الرواية وليدة الانتباه، وراح يكرس انتباهه للتغيير الذي أصاب شخصيته ما جعله يرى واقعه واقعًا آخرًا خلال احتجاجه أمام دار الصحافة مطالبًا بإرجاعه إلى عمله.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا يقرأ كتّاب "ألترا صوت"؟
الجوع آخر محطات تلك الرعاية السامية للمشاعر والتجارب مجتمعةً والتي قسمها بين تشكل الوعي الإبداعي والتجربة والتمرد على السائد، لننتقل من يوميات البنات إلى تجارب الكاتب ويحضر صوته كواحد من الشخصيات التي يكتب عنها، لا يختبئ وراء كاتب كليّ المعرفة، بل يلقي بنفسه أمام إعادة سرد التجربة من جديد، ليكون السرد هذه المرة استشفاءً وليس خيارًا سهلًا، ويتوصل من خلاله للتطهر والتخلص من التيه ويساعده بتحديد بوصلته: "كانت لحظة مواجهة العراء، في الليلة الأولى صعبة. إذا تفرق الناس الذين كانوا معي، عند منتصف الليل، ولم يبق إلا سعيد خطيبي. هناك انتابي إحساس غريب جدًا، قام على هذه الأسئلة: لماذا لم تكن إرهابيًا؟ لديك زملاء في الدراسة، أصبحوا أمراء في الجبل، ثم عادوا غارقين في الثراء؟ لماذا لم تصبح رياضيًا أو تاجرًا؟ لكنني لا أستطيع أن أصف لذة اللحظة، التي انتصرت فيها على نفسي فقلت لها: أنا اخترت الشيء الذي يبقى. ولم أندم بعدها أبدًا." ص 154.
لا تبدو كتابة السيرة عند عبد الرزاق بوكبة ترفًا أو اختيارًا لنوع ما وتفضيله عن الأنواع الأخرى، كما وأن تلك العودة إلى الماضي ليست حالة نكوص يهرب منها أو يسعد بها الكاتب فيجرها إلى حاضره الرمضاني الفوضوي، لكنها مرحلة أخرى من مراحل الكتابة في الشعر والرواية والقصص، ومحاولة منه لنبش أوراق الكتابة وبعثرتها للتطرق لمعاناته.
هكذا جاءت السيرة على أنها بوصلة للتيه الذي عاشه بين مفارق عديدة في العمل والحياة والمجال الإبداعي. طارحًا سؤاله: كيف يتخلص كاتبٌ ما من أمر شاق عليه بغير كتابته أو وضعه في إطارٍ روائي واقعي أو متخيل، متجاوزًا من خلاله عراقيل وتيهًا حقيقيًا قفز عنه عبد الرزاق بوكبة من خلال عبوره في عوالم بناته وقريته والعمل.
اقرأ/ي أيضًا: