سلام فلسطيني على بيروت، وسلام على مثلث خلدة، وعلى الضوء المشعّ من وجوه الشهداء العائدين من المعركة إلى أرض الوطن. سلام على الزنود التي قاتلت من وراء المتاريس. سلام لمن قال لن يمروا، في ليلة لا تنتهي.. في ساحة لا تنتهي.. في ملحمة لا تنتهي.
ولد عبد الله صيام في الجورة، وهي كسائر القرى الفلسطينية تعرضت للتدمير من قبل العصابات الصهيونية عام 1948، وتم طرد سكانها وإقامة مستعمرة على أراضيها
الشهيد العقيد الركن عبد الله صيام الحاضر دومًا في الذاكرة التي لا تغيب تروى سير القادة الشهداء وتتحدث عن مآثرهم، عن تضحياتهم، عما قدموا ولم ينتظروا شيئًا لا سلطة ولا مالًا، ولا حتى قبرًا.
اقرأ/ي أيضًا: محجوب عمر.. حكاية فلسطينية
من مواليد قرية الجورة عام 1934، وهي كسائر القرى الفلسطينية التي تعرضت للتدمير من قبل العصابات الصهيونية عام 1948، وتم طرد سكانها وإقامة مستعمرة على أراضيها، انتقلت عائلته إلى غزة حيث أقامت العائلة هناك، ودرس الشهيد بمدارسها إلى أن أنهى مرحلة الثانوية العامة، ثم التحق بجامعة القاهرة لدراسة الهندسة وكان أول طالب فلسطيني يتخصص في هندسة الطائرات.
تخرج عبد الله صيام مهندسًا حيث عمل في شركة طيران في الأردن، ومن ثم انتقل إلى سوريا، وبعد ذلك بمدة بسيطة انتقل إلى العراق وعمل في سلاح الطيران وكان من أكفأ الضباط المهندسين.
بعد تشكيل جيش التحرير الفلسطيني التحق بالكلية الحربية العراقية، ليتخرج بعدها برتبة ملازم أول حيث عمل مع قوات القادسية، لينتقل إلى الأردن بعد هزيمة 1967، ومن ثم إلى سوريا لنضم إلى قوات حطين حيث قاتل في حرب أكتوبر/تشرين أول 1973 وكان مسؤولًا عن كتيبة مضادة للطيران.
بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية انتقل مع كتيبته إلى سهل البقاع، وبعد التدخل السوري في لبنان عام 1976 وقفت الثورة الفلسطينية في وجه هذا التدخل، صدر أمر لعبد الله صيام بالعودة إلى سوريا حيث حصل تمرد في وحدات جيش التحرير الفلسطيني بعدما اندلعت اشتباكات بين قوات الثورة والقوات السورية، حيث انحاز وكتيبته إلى الثورة فتم إلقاء القبض عليه وزج به في المعتقل وبعد فترة زمنية أفرج عنه، فألتحق ورفاقه بقوات الثورة الفلسطينية إذ تولى قيادة جيش التحرير الفلسطيني في لبنان.
على عكس قيادات منظمة التحرير العسكرية في الجنوب التي تركت مواقعها وانسحبت في اتجاه بيروت، كان عبد الله صيام في موقعه بخلدة ينظم في صفوف المقاومين
في 1982، كانت كل المؤشرات توحي أن الاجتياح الاسرائيلي للبنان قادم لا محالة، وأنه ينتظر فقط إشارة الضوء الأخضر، وفي 6 حزيران/يوليو شن الطيران الإسرائيلي سلسلة من الغارات التي استهدفت مقار منظمة التحرير الفلسطينية لتعلن بدء الاجتياح الاسرائيلي للبنان.
اقرأ/ي أيضًا: زكي هللو.. رجل الظل
تقدمت أرتال جيش الاحتلال ومن محاور عديدة، وتحت ستار من القصف الجوي والبري والبحري اجتازت الدبابات الاسرائيلية خطوط الدفاع الأولى، وسقطت مواقع قوات منظمة التحرير الفلسطينية تباعًا، إلى أن وصلت القوات الإسرائيلية إلى مشارف العاصمة اللبنانية بيروت ووقفت عند المدخل الجنوبي عند مثلث خلدة الذي يصل العاصمة بالجنوب والجبل.
على عكس قيادات منظمة التحرير العسكرية في الجنوب التي تركت مواقعها وانسحبت في اتجاه بيروت، كان عبد الله صيام في موقعه بخلدة ينظم في صفوف المقاومين، ليتصدى لمحاولات قوات الاحتلال المتكررة لاقتحام المثلث والتي باءت كلها بالفشل.
لقد حاول العدو إخضاع منطقة خلدة والتوغل في عمقها لاقتحام بيروت ومباغتتها، وحشد العدو فرقة مدرعة كاملة "فرقة الجنرال آموس يارين" معززة بمختلف أنواع الاسلحة مدعمة بقصف الجوي وبحري. تواصلت المعركة حول مثلث خلدة لأربعة أيام كاملة، حاول العدو في بدايتها تحت وابل من القصف البري والبحري والجوي المركز توجيه ضربة مباغته للمقاتلين المتواجدين في المثلث، عن طريق تلك الكتيبة مدرعة التي تتحرك وترمي على جانبي الطريق بهدف
إسكات وتدمير مواقع المقاومين التي نصبت داخلها الأسلحة المضادة للدروع، والتي زرعت على امتداد المنطقة، لكن تلك الهجمات الشرسة لم توقف مقاومة العشرات من المقاتلين الفلسطينيين ومقاتلي الحركة الوطنية اللبنانية، الذين نفذوا كمائن محكمة بقيادة عبد الله صيام قائد القوات الفلسطينية في محور خلدة، وتمكنوا من قتل وجرح العشرات من جنود الكتيبة التي دفعها العدو لاقتحام خلدة، وتمكنت قوات الفلسطينية اللبنانية المشتركة من سحب عربة مدرعة إم 113 وأدخلتها الى بيروت بعد تدمير العشرات من آليات العدو.
نلجأ إلى سير الشهداء لنقول شيئًا واحدًا هو أن إنجاز المقاومة اليوم في ثباتها وصمودها وانتصارها هو نتيجة حتمية ومنطقية لهذا المسار
شراسة المعارك دفعت بنائب رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي يكوتئيل آدم لمتابعة الموقف الميداني من ساحة المعركة، ليقع في كمين مسلح ويُقتل رفقة عدد من الضباط وجنود خلف خطوط جبهة المعارك.
اقرأ/ي أيضًا: سهيلة أندراوس.. رابعة الأربعة
عجزت قوات الاحتلال عن اقتحام مثلث خلدة بالرغم من أتباع أساليب وطرق أخرى، فقد سحب العدو آلياته ومدرعاته من خط المواجهة الأمامي، وبدأ الهجوم الجديد بقصف تمهيدي أشد ضراوة وأكثر تركيزًا وبمحاولات تقدم على عدة محاور، وباستخدام الإنزالات الجوية والإنزالات البحرية على الشاطئ المحاذي لخلدة، ومع اشتداد ضراوة الهجوم اشتد صمود القوات المشتركة المدافعة عن خلدة، ووصل الأمر في كثير من الأحيان إلى خوض معارك قتال من مسافة الصفر مع العدو، الذي تكبد خلالها خسائر فادحة في صفوف قواته كان لها أثر كبير في ضرب معنوياته وتشتيت مخططاته التالية.
في نهاية الايام الثلاثة لمعركة خلدة، عمل الشهيد عبد الله صيام على تطوير أساليب الدفاع عن المداخل الجنوبية للعاصمة بيروت، وتجهيز مجموعات قتالية صغيرة تقوم بهجمات اعتراضية على مواقع العدو لاستنزافه وإعاقة خططه للتقدم والاختراق، وباشر العمل على هذه المجموعات وأشرف على تنسيق عملياتها وتنظيم كمائنها الأمامية، وقيامها بهجومات مباغتة وبشكل متصاعد. كان الشهيد يقود معركة خلدة من المواقع المتقدمة ومن خط المواجهة الامامي على مشارف تلال عرمون في تماس مباشر مع قوات العدو، ما مكن جيش الاحتلال في اليوم الرابع للمعركة من قصف موقعه بشكل مكثف وشديد ومباشر ما أدى إلى استشهاده مع رفاقه المقاتلين ولم يستطيع أحد سحب جثته أو العثور عليها.
القتال الضاري الذي قاده الشهيد عبد الله صيام ورفاقه واستبسالهم وثباتهم في مواقعهم مكن المحاصرين داخل العاصمة من تدعيم مواقعهم وتحصينها، كانت معركة خلدة أحد أسباب هذا الصمود الأسطوري الذي استمر 90 يومًا داخل بيروت المحاصرة.
عندما ننكسر نلجأ إلى سير الشهداء واثقين أننا لن نجد الحقيقة إلا عندهم، وحين نتذكرهم ونروى سيرهم ومآثرهم نقول شيئًا واحدًا هو أن إنجاز المقاومة اليوم في ثباتها وصمودها وانتصارها هو نتيجة حتمية ومنطقية لهذا المسار الطويل، الذي راكم تجارب وتضحيات هؤلاء الأبطال، هو تاريخ واحد ومصير مشترك.
اقرأ/ي أيضًا: