هنا عرض لكتاب الدكتور عزمي بشارة "هل من مسألة قبطية في مصر؟" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2012).
يمكننا تعريف "هل من مسألة قبطية في مصر؟" باعتباره مقدِّمة قصيرة في الملف القبطي تسعى للإحاطة بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية لأقباط مصر بداية من عهد محمد علي باشا الذي حكم مصر من 1805 إلى 1848 وحتّى نشوب ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011. وسوف نعتني هنا بالنقاط الأساسية التي أوردها النصّ بقطع النظر عن بعض أحداث السنوات الأخيرة التي قام بمعالجتها، فقد تناولت تقارير عديدة هذه الأحداث.
كان محمد علي أول حاكم مسلم منح الموظّفين الأقباط رتبة "البكوية" واتخذ مستشارين منهم
بشكل عام "ينتمي معظم الأقباط في مصر إلى الكنيسة الأرثوذكسية المرقسية القبطية، ومقرّها الإسكندرية. وتتمتّع الكنيسة القبطية باستقلال ديني ومؤسّسي عن المراكز الكنسية الأخرى في العالم، بمعنى أنها كنيسة وطنية مستقلة.
ومع أن معظم الأقباط في مصر هم من أتباع الكنيسة المحلية (الأرثوذكسية القبطية)، إلّا أن هناك عددًا قليلًا من أتباع الكنيسة الكاثوليكية في روما، كما أن بين مسيحيّي مصر عددًا محدودًا من أتباع المذهب البروتستانتي/الإنجيلي" (ص. 20). هذا عن الخريطة العامّة للانتماءات الدينية للأقباط ولعلاقة الكنيسة المصريّة الأُم بالكنائس الأخرى داخل وخارج القطر المصري.
اقرأ/ي أيضًا: مصادرة كتب عزمي بشارة في معرض الشارقة
الأقباط في التاريخ
بخصوص بداية حكم الأسرة العلوية يُذكر أن محمد علي قد "أزال معظم المظاهر التي كانت تؤكّد تمييز الأقباط وتمايزهم، وأبرزُها قيد الزيّ الذي كان مفروضًا عليهم في العصور السابقة. وألغى القيود التي كانت تفرض على ممارستهم الطقوس... وأفسح في المجال للموافقة على طلبات بناء الكنائس وإصلاحها ومساعدتهم في ذلك من خزينة الدولة. ومما يجدر ذكره على مستوى المنزلة الاجتماعية/السياسية أنّ محمد علي كان أول حاكم مسلم منح الموظّفين الأقباط رتبة "البكوية" واتخذ مستشارين منهم" (ص. 21).
وفي عهد الخديوي سعيد الذي تولى الحكم من 1854 إلى 1863، "اقترب التعامل مع الأقباط خطوات أخرى من مفهوم "المواطنة" وممارستها بإلغاء الجزية المفروضة عليهم منذ فتْح مصر في منتصف القرن السابع. وقد أفسح ذلك في المجال لفرض الخدمة العسكرية عليهم، ولعل هذا الأمر كان من أهمّ مؤشّرات التخلّص من الذمّة والذمية، فدخل الأقباط أول مرة سلك القضاء والجيش" (ص. 21-22).
وفي عهد الخديوي إسماعيل الذي حكم مصر من 1863 إلى أن خُلع في 1879 "شهدت أوضاع الأقباط تحسّنًا ملحوظًا من خلال الزيادة العددية والارتقاء العمودي في سلم وظائف الدولة، حين حصل بعضهم على رتبة "الباشوية". كما دعم الخديوي إسماعيل التعليم الديني "القبطي" ماديًا في إطار المدارس المشتركة مع المسلمين" (ص. 22). وفي عهد الملك فاروق الأول، آخر من حكم مصر من الأسرة العلوية، "تبوّأ أقباط منصب الوزارة 12 مرّة. وهو الرقم الأكبر في تاريخ مصر الحديث" (ص. 23).
"بعد ثورة تموز/يوليو 1952 تعرّضت أوضاع الأقباط في عهد جمال عبد الناصر لتناقضات عدة؛ فالأقباط المندرجون في الفئات الاجتماعية الدنيا في المجتمع المصري، أي الخاضعين للإقطاعيّين والبرجوازيّين، نظروا إلى الثورة وإجراءاتها بإيجابية خاصّة، ولا سيما ما يتعلّق بالتأميم وقانون الإصلاح الزراعي. في حين أن النخبة الاقتصادية القبطية (الليبرالية)، التي انتعشت في العهد الخديوي، تأثّرت سلبًا بهذه الإجراءات" (ص. 23). وكقاعدة عامة يمكن الإشارة إلى أن "النظام السياسي الذي تشكّل وسيطر عليه التيار المعادي للديمقراطية في صفوف الضبّاط الأحرار، أقصى كلّ من يعارضه أو يخالفه الرّأي" (ص. 24). ومن الجدير بالإشارة أنّه في عهد جمال عبد الناصر (تولى الحكم من 1956 إلى 1970) صار الدين مادّة أساسية في مراحل التعليم المختلفة، وتم إنشاء جامعة الأزهر المقصورة على الطلبة المسلمين، وتأسست إذاعة القرآن الكريم، كما أُدخل نظام "التعيين" في مجلس الأمّة لتلافي صعوبة نجاح الأقباط في الانتخابات النيابية (لم ينجح في انتخابات مجلس الأمّة في عام 1957 إلا قبطي واحد عن دائرة شبرا هو فايق فريد) (ص. 26).
عمل السادات (حكم من 1970 إلى أن تم اغتياله في 1981) على "ضرب الإرث الناصري في الدولة والمجتمع والإعلام، حتّى لو تطلب الأمر التّحالف مع الجماعة الإسلامية والإخوان المسلمين، وكان من جراء ذلك أن أطلق السادات سراح المعتقلين الإسلاميّين" (ص. 27)، "وقد أدّى ذلك إلى انتشار الخطاب الديني الإسلامي بشكل غير مسبوق" (ص. 28). وتُعَدّ فترة حكمه من أسوأ ما مرّ على الأقباط في التاريخ المصري الحديث، وقد نسبت إليه تصريحات قديمة، في عام 1965، في مدينة جدة، حين تولى منصب الأمين العام للمؤتمر الإسلامي، يقول فيها إنّه "سيحوّل أقباط مصر إلى الإسلام خلال عشر سنوات، أو سيتم تحويلهم إلى ماسحي أحذية وشحاذين" (ص. 28). وفي عهده، تمّ إضافة "الإسلام دين الدولة، والشريعة مصدر رئيس للتشريع" إلى المادة الثانية من دستور عام 1971 (سيتم تعديلها في العام 1980 إلى "الشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع")، ووضعت "الشروط العشرة" لبناء الكنائس وترميمها (ص. 28).
تُعَدّ فترة حكم أنور السادات من أسوأ ما مرّ على الأقباط في التاريخ المصري الحديث
حصلت مرونة "نسبيّة" في إجراءات بناء الكنائس في عهد حسني مبارك (حكم من 1981 إلى أن أطاحت به الثورة في 2011)، واعتبر عيد الميلاد المسيحي عطلة رسمية للدولة، و"من خلال استقراء واقع المواطنين الأقباط في مصر، يمكن ملاحظة انفتاح بسيط من الدولة في عهد مبارك، من دون إحداث قطيعة مع الممارسات الإلغائية في عهد السادات. وقد ظلت المشاركة السياسية مقصورة على بعض النوّاب المعينين أو الوزراء في وزارات غير سيادية" (ص. 30).
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة.. الحفر في الثورة المصرية (1- 2)
أسباب للشكوى
تتعدّد مصادر الشكوى من الغبن الذي يلحق بأوضاع الأقباط في مصر، فمنها ما يتعلق بالتعليم الأساسي والثانوي الذي يتجاهل حقبة طويلة من التاريخ القبطي، كذلك تجاهل الديانة المسيحية في المقررات العامة في المدارس، لكن تنبغي الإشارة إلى "أن من يقول بغياب نصوص قبطية يفوته أن القرآن يُدرس في هذا الإطار [في مادة اللغة العربية] بوصفه نصًا لغويًا وليس نصًا دينيًا.. وإنما ظهر هذا الاعتراض نتيجة أجواء التوتّر الطائفي" (ص. 35).
يضاف إلى ذلك التمييز في مدّة التجنيد بالنسبة إلى حَفظة القرآن الذين يخدمون سنة واحدة بدلًا من ثلاث سنوات (من غير الحاملين لمؤهلات عليا)، في الوقت الذي لا يتمتع فيه حَفظة الإنجيل بهذه الميزة (ص. 35-37). وهناك الشكوى الدائمة من تضييق الحكومة على بناء الكنائس وترميمها، حيث يحتاج غير المسلمين إلى رخصة من رئيس الجمهورية لبناء مكان للعبادة وهو الإجراء الذي يعود إلى قانون عثماني (الخط الهمايوني) صدر عام 1856، لكن رغم صدور قانون 1999 الذي قدّم تسهيلات في ترميم دور العبادة، وصدور أحكام قضائية في نفس الاتجاه، إلا أن القانون والأحكام لا تجد أفقًا للفعالية على أرض الواقع بسبب رفض الجهات الأمنية (ص. 37-39).
يمثل أيضًا نص المادة السادسة من قانون إلغاء المحاكم الشرعية والمجالس الملّية رقم 462 لسنة 1955 بجعل الشريعة الإسلامية واجبة التطبيق على غير المسلمين في منازعات أحوالهم الشخصية في حالة اختلاف الطائفة أو الملّة بين الزوجين إلى تمييز بين المسلمين وغيرهم، لأنه يقضي بتطبيق الشريعة الإسلامية على غير المسلمين، ولا تتمتع الأرامل المسيحيات اللواتي مات عنهن أزواجهن المسلمون بأي حق في الميراث (صص. 51-53).
من هنا "يتّضح جليًّا وجود ملفّ قبطي مفتوح في مصر يحتاج إلى معالجة [...] [و] مفتاح التعامل مع هذا الملف هو المواطنة المتساوية. والديمقراطية هي الإطار الملائم لمثل هذه المقاربة" (ص. 70). وسؤال الديمقراطية هذا يفتحنا، على نحو حتمي، نحو سؤال آخر هو الموقف من النظام الذي يحكمنا الآن وهنا.
اقرأ/ي أيضًا: