حينما كتب العميد محمد سمير، المتحدث العسكري المصري السابق، مقالًا ركيكًا وصف فيه جمهور الساخرين من زواجه الثالث بـ"الرعاع"، فقد عكس بذلك بأمانة النظرة الدونية للعصابة الحاكمة تجاه الشعب، بما هو عبء ثقيل على الدولة وحكامها. وهذه النظرة مستحكمة في ذهنية العقل السلطوي المصري، تعكسها تصريحات السيسي نفسه أحيانًا، فيما لا تتردّد غربان الإعلام الناعقة في التأكيد عليها.
في وقت الحديث عن الوحدة الوطنية وغيرها، يمارس النظام كافة أنواع التمييز ضد طيف واسع من المصريين.
تمثل أطروحة فضل الجيش على الدولة والشعب أطروحة مؤسسة لاستبداد العسكر وحزامه من البرجوازية المصرية. فـ"تسلم الأيادي" هي شكر لصاحب "الفضل"، و"مصر لا يحكمها إلا الجيش" هي المسلّمة المغلوطة التي يروّج لها أذناب النظام. ففي وقت الحديث عن الوحدة الوطنية وغيرها، يمارس النظام كافة أنواع التمييز ضد طيف واسع من المصريين.
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة: "الجيش والسياسة" مدخلًا لفهم الدولة الوطنية العربية
في الأثناء، قد يجيء أحيانًا السؤال عن لماذا لا يفكر أبناء الكبار مثلنا، أي لماذا لا يطالب مثلًا ابن لواء بسقوط النظام؟ الإجابة بديهية، ويمكن ركنها بصفة أصلية في باب المصلحة وتشابك العلاقات وامتدادات النفوذ، ولكن في الواقع قد تعود لاعتقاد راسخ لدى أبناء الباشوات بأن مصر للكبار ولا يمكن أن يحكمها "الرعاع"!
هناك حالة انقسام وجداني ومادي بين أبناء الباشوات وطيف واسع أغلبي من الشعب المصري. إن التجمعات السكانية والمناطق الراقية الخاصة بالـ"الكبار"، والتي يحجر لغيرهم الاقتراب منها، هي انعكاس في الحقيقة للمشهد العام. هناك مصر خاصّة بكل طرف.
لذلك تعرف العصابة الحاكمة أن تحصين نفسها جوهريًا لا يتمّ بالحماية الأمنية من خطر "الأشرار"، بل بالحماية الفكرية عبر ترويج أفكارها المسموسة لدى طبقة رؤوس الأموال وطبقة الملحقين لها من ضباط الداخلية والجيش والقضاء. حيث استطاعت القيادات السياسية المتحّكمة بخيوط اللعبة في ربط تحالف وثيق مع رجال الأعمال، وهو تحالف انطلقت نواته مع الانفتاح الاقتصادي الذي قاده السادات قبل أن يؤسسه حكم مبارك في شبكات مافيا مثلت الدولة مجرّد غطاء لأنشطتها.
ثمّة انقسام وجداني ومادي بين أبناء "الباشاوات" وأغلبية الشعب المصري، ممن أسماهم المتحدث العسكري السابق بـ"الرعاع"!
وباتت تعتبر رؤوس الفساد، أن خلاصها هو في مناخ استبدادي وفاسد يسمح لها بتنمية مواردها بطرق غير شرعية، بحيث تمثل الديمقراطية بما هي وعاء حامل لمعاني الرقابة والحوكمة والشفافية، خطرًا عليها، وبالتالي فإن نظام الاستبداد هو ضرورة وجودية بالنسبة لها.
في المقابل، يُوجّه خطاب مغاير لملاحق النظام وحاميته من عساكر وصغار الضباط، يرتكز على أن التصدّي للأشرار والمخرّبين والمعارضين هو واجب وطني بل وديني. ولعلّه تُستذكر في هذا السياق تسريبات الخطب الدينية التي تشرف عليها الشؤون المعنوية في الجيش. ولذلك فإن قصة أحمد زكي في رائعة "البريء"، يعيشها في الحقيقة آلاف العساكر وصغار ضباط الذي يتوهمون بأن ممارستهم للتعذيب وقمعهم وشتمتهم للمواطنين المعارضين هو واجب. في النهاية لا يوجد ذنب ولا موجب للندم.
وفي الأثناء، تتزايد رسوخًا فكرة الاستعلاء لدى الشبكات المنصهرة في النظام، ومثلًا تعكس حادثة فتاة المطار وتعاملها مع ضابط الشرطة مدى العجرفة التي بلغت الأوساط النافذة حتى باتت تمارس قهرها على ضابط شرطة!
وفي هذا السياق، لا يجب تناسي لفظة "الخرفان" الموجّهة ضدّ الإخوان، فهي ليست مجرّد شتيمة مبناها انصياع الإخوان وراء قياداتهم كما يظنّ العديد، إذ هي في نواتها شرعنة لإخراج الإخوان من دائرة الآدمية، وليس مجرّد الوطنية. ويعلم الجميع الاستتباعات اللاحقة التي جعلت الإخواني كزائدة دودية كريهة يجب التخلص منها بسرعة!
مصر اليوم منقسمة بين علية القوم و"الرعاع"، فلا يجب أن ننسى أن ابن البواب لا يمكن أن يصبح قاضيًا!
مصر لا ترفع الجميع. هذا هو الكابوس في النهاية الذي أسسته وتمارسه اليوم العصابة الحاكمة. هو إقصاء أو تحديد للمرتبة. فالجميع خدمٌ في حضرة أولاد البلد الذي هم في النهاية كعمال بناء الأهرامات التي تحمل اسم الملوك.
اقرأ/ي أيضًا: طفل لعن جيشه
بالنهاية، مصر اليوم منقسمة بين علية القوم و"الرعاع"، فلا يجب أن ننسى بأن ابن البوّاب لا يمكن أن يصبح قاضيا! وهذا الانقسام المجتمعي قاتل، وما يخيف أن له باع في التاريخ. ولذلك، لم تكن 25 يناير العظيمة في نواتها إلا ثورة على هذا التاريخ وأساطيره. فهي ثورة الإنسان المستمرّة ضد منطق "علية القوم والرعاع".
اقرأ/ي أيضًا:
بداية ثورة يناير نهاية الديكتاتورية والديمقراطية
المجتمع المدني المصري في قبضة أمن الدولة بقانون جديد.. 3 أسئلة تشرح الكارثة