لايزال السّياق الذي أدّى إلى انتعاش قصيدة الهايكو ذات الأصول اليابانية، في المشهد الجزائري مؤخرًا، بعيدًا عن الانتباه والدّراسة، تمامًا مثلما بقيت الأقلام التي خاضت في هذه الموجة، على اختلاف التجارب وتفاوتها جماليًا وقدرةً على الوفاء لروح الهايكو الوفية لعناصر الطبيعة الصّغيرة.
هل يجوز أن نعتبر ما يُكتب في السّياق العربي بمعمار منزاحًا قليلًا أو كثيرًا من الهايكو؟
رغم هذا الصّمت النقدي، الذي قد يُبرّر نفسه بحقّه في التأمّل والمتابعة أوّلًا، فقد استطاعت بعض الكتابات الجزائرية أن ترقى إلى مصاف التجربة الواعية بمنطلقها وأفقها وأدواتها، بغضّ النظر عن نجاحها أو فشلها في القبض على لحظة الهايكو، كما يُلاحظ من نصوصها، لا كما يُستنتج من تنظيراتها، لأننا لم نقرأ، إلا في حدود ضيّقة جدًّا، تنظيرًا أو تأصيلًا في هذا الباب، منها تجربة الأخضر بركة وعاشور فنّي وفيصل الأحمر.
اقرأ/ي أيضًا: علي ذرب.. أتصفح تصاوير من قمتُ بقتلهم
في ظلّ هذه الاعتمالات المفتوحة على الإضافة والانكماش معًا، نشرت الشّاعرة عفراء قمير طالبي مجموعتها "لا أثر على الرّمل لأعود" (دار فضاءات، 2016) ضامّة 130 "هايكونة". هل يجوز لنا أن نسمّي ومضة الهايكو هكذا؟ اشتركت في إيغالها في القصر، فهي لا تتجاوز الكلمات الخمس، إلا نادرًا، واختلفت في الهاجس وموقع "بؤرة الدهشة" تقديمًا وتأخيرًا.
إذا كان معمار الهايكونة في السّياق الياباني، القائم على بيت واحد مكوّن من سبعة عشر مقطعًا صوتيًا، وفق ثلاثة أسطر في العادة، داخلًا في صميم هوية الهايكو، هل يجوز أن نعتبر ما يُكتب في السّياق العربي بمعمار منزاحًا قليلًا أو كثيرًا من الهايكو؟ هذا عن الشّكل الذي قد نُجيز لأنفسنا التسامح معه، فماذا عن الرّوح؟ حيث يُعد الاحتفاء باللحظة الطبيعية البسيطة، بعيدًا عن البهرجة، إذ يصبح الرهان رصدَ الصّورة وما يترتب عنها من إحساس، من صميم هوية الهايكو أيضًا؟
تحملنا ومضات عفراء قمير طالبي، ونحن نقرأها، على أن ننسى هذه الهواجس المتعلقة بهويتها، أو نؤجلّها إلى سياق آخر، ذلك أننا نجد أنفسنا أمام نباهة شعرية تستحوذ على جوانب الانتباه، إذ ما قيمة جمال النص الشعري، بعيدًا عن مراعاة شكله، إذا لم يكن تحت الرّعاية السّامية للذكاء؟ ليس في خلق الصّورة فقط، بل في انتقاء الكلمة والجملة المناسبتين للحظة التلقي.
ليست التجربة الشعرية ثمرةً للدفق، أو القريحة فقط، بل هي ثمرة لفهم عميق للفعل الشعري
تكاد الأسئلة تكون غائبة في الومضات، ذلك أنها كانت سابقةً لها، فالومضة هنا ثمرة للتأمّل الذي تنضجه الأسئلة، فهي منطلق وليست أفقًا، وهذا يجعل الومضة تقدّم نفسها كأنها حقيقة، لكنها حقيقة تؤسّس لدهشة لا لقناعة، ما يحميها من التناقض مع روح الشّعر القائمة على روح الشك. "الصّورة في الظرف/ الظرف في الحقيبة/ الحقيبة تنتظر". "فستانها المزركش/ كيفما تعصف الرّيحُ/ لا تسقط أزهارُه". "الخريف/ المزهرية عارية/ سوى من اسمها". "منشغلين بالقبلة/ تصل إلى المطبخ/ سلحفاة".
اقرأ/ي أيضًا: شعر أمازيغ الجزائر.. ذاكرة الألم
ولئن كانت هذه الهايكونات، وغيرها موجود، قد انتبهت إلى حالات نفسية، حيرةً ودهشةً وفرحًا وخوفًا وشغفًا، على غير عادة الهايكو في سياقه الأصل، فقد رصدت أخرى لحظاتٍ في الطبيعة الصّرف، تكمن بلاغتها في بساطتها/ سذاجتها. "على بعضها/ في عرض المحيط/ تتزحلق الأمواج". "بساقٍ واحدة/ يقف طائر البلشون/ على قمر البحيرة". "حفنة بتلّات/ كلما أعيد تشكيلها/ تنهار الوردة". "عشّ اللقلق/ على شراع الطاحونة/ يدور".
كما نجد ومضاتٍ اشتغلت على الثيمة نفسها، فكأن الومضة الواحدة تشظّت فصارت ومضاتٍ، بما يجعل القارئ يطرح سؤال جدوى التعدّد، غير أنّ تأمّلًا بسيطًا يجعله ينتبه إلى أن زاوية التناول مغايرة. "الوردة تفتّحت للتو/ من وَلَهٍ أقطفها/ مرّتين". "الوردة التي تفتّحت للتو/ تبادلني/ الابتسامة". "الوردة التي تفتّحت للتو/ تعيدني إلى/ سيرتي الأولى"، والمشترك بين الحالات الثلاث للوردة والذات الكاتبة هنا هو زمن الولادة/ التفتّح/ الطفولة، وهو زمن يجعلنا نقول/نفعل الشيء نفسه أكثر من مرّة، من غير أن يُعدّ ذلك ثرثرةً منّا.
لقد اعتمدت الشاعرة تقنية الكتابة عن الصورة من خلال ظلها، أو إحدى القرائن المحيلة عليها، ما يمنح المتلقي فسحة للتفكير، من خلال القيام بعملية الربط، وربما توقف ليعيد العملية مرارًا، فيجد نفسه قد تحوّل إلى شريك في العملية الإبداعية، تمامًا كما ذهبت إليه نظريات التلقي الحديثة. من هنا وغيره نستطيع القول إن هذه التجربة ليست ثمرة للدفق الشعري، أو سمّاه القدماء الموهبة/القريحة فقط، بل هي ثمرة لفهم عميق للفعل الشعري، بما هو صناعة/خبرة أيضًا.
اقرأ/ي أيضًا: