"إن أطفالكم ما هم بأطفالكم،
فقد ولدهم شوق الحياة إلى ذاتها،
بكم يخرجون إلى الحياة وليس منكم
وإن عاشوا في كنفكم فماهم ملككم"
جبران خليل جبران – النبي
كانت صديقتي تشكو لي منذ سنوات عبء تحمل مريض عزيز أرقده المرض حتى عن خدمة نفسه، فأصبحت هي عينه التي يرى بها وفمه الذي ينطق عنه، وعينيه التي يرى بها، وحتى عقله الذي يفكر عنه، كانت هذه أمها.
الصداقة بين الأبناء وآبائهم هي ما يضع حدًا للعقوق، الصداقة بمعنى النقاش، الذي يحافظ على شيء من الاتزان أيضًا
وحين رحلت الأم، حدثتني صديقتي عن خستها معها رغم أنها كرست ثلاث سنوات من عمرها كاملة لأجل خدمتها عند مرضها. تتساءل صديقتي: "هل أخطأت عندما ذكرت والدتي بإساءتها إلي في السابق؟".
كعادتي بدأت أبحث عن المنطقة الوسط بين "تابوه" اعتبار أهلنا، الأب والأم، مقدسات لا يجوز المساس ببرها وبين كوننا أيضًا ضحايا، في بعض الأحيان، لسوء تربيتهم ولأفكارهم الضحلة ولتدميرهم لمعنوياتنا أحيانًا أخرى.
مقدسات البر وصلة الرحم رائعة لو أننا في مجتمعات حاول فيها الأبوان أن يجنبا الأبناء الإساءة التي تعرضا لها وهما في ذات السن. المرعب في الأمر، هو أن تأتي الإساءة من الأهل أيضًا. سمعت كثيرًا عن الأم التي تحكي للغرباء مساوئ أبنائها على اعتبار أنها نوع من الفضفضة، وعن الأبوين اللذين تعمدا تعنيف أبنائهما أمام الآخرين، عن استدعاء ألفاظ بعينها تصبح لصيقة في وجدان الطفل عن نفسه حتى يكبر لتتحول إلى باكورة لعقده النفسية في المستقبل.
حاولت قراءة شكل جديد من العقوق، أبطاله أبوان يظنان أن التضحية والسعادة يكفلهما طعام صحي وملبس أنيق ومدرسة ذات مصاريف مرتفعة، دون أن ينتبه الأبوان إلى أن الحضن والكلمة الطيبة واللعبة أحيانًا والحكاية في أحيان أخرى هي كل ما يحتاجه هذا الحزين الصغير.
يقول جبران في موضع آخر: "في وسعكم السعي لتكونوا مثلهم، ولكن لا تجعلوهم مثلكم"
أثبتت كل التجارب أن معايير الاتزان لا تكمن في الإجابات الصحيحة بل في الأسئلة الصحيحة وأن قضية الحقيقة المطلقة لا يجب أن تشغل بال الطفل، بل يجب أن يشغل باله كيف يصل وكيف يتواصل، وكيف أن عليه السعي وليس عليه بلوغ النجاح لأن كل نجاح في العالم نسبي.
الصداقة بين الأبناء وآبائهم هي ما يضع حدًا للعقوق، الصداقة بمعنى النقاش، الذي يحافظ على شيء من الاتزان. أن يعترف الآباء بأخطائهم وأن يمكنوا الطفل من نقد بطله، ويهدم في خياله صورة السوبرمان الذي لا يخطئ ولا يجوز انتقاده.
أجبت صديقتي: "نعم، كان في غير موضعه أن تذكري والدتك في مرضها بتصرفاتها في الماضي معكِ، احتياجنا المستمر كأبناء لآبائنا وأمهاتنا هو ما يجعل الإساءة تتوارى في كهوف الذاكرة حين يصيبهم مكروه. لكن حقًا لا هم ملائكة هبطت من السماء، ولا نحن من أحفاد إبليس". التصالح في النهاية مع بشريتهم وطريقتهم الغريبة في المحبة التي لا يجيدون غيرها خاصة وإن تخطوا أرذل العمر، تصنع اتزانًا نفسيًا لنا وتجعلنا نفهم كيف نسوق قارب العلاقة إلى شاطىء الأمان.
اقرأ/ي أيضًا: