كان هيغل يثابر على مطالعة الجريدة اليومية، معتبرًا إياها مجسًا لقياس نبض العالم، ومشبّهًا قراءتها بـ"الصلاة الصباحية". جيمس ماديسون قال إن "الصحافة واحد من أكبر حصون الحرية"، وغارسيا ماركيز وصفها بأنها "أجمل مهنة في العالم". أحمد شوقي، أمير الشعراء، قال إنها "آية هذا الزمان"، فيما هتف شاعر أكثر حماسة: "إن الصحافة للشعوب حياة". أما ألبير كامو فقد وضع التاج الأكثر فخامة على رأس الصحفي: "مؤرخ اللحظة".
حسنٌ.. تتذكرون بالطبع أن نابليون بونابرت قد نال أضعاف هذه المدائح ومع ذلك مات!
جيمس ماديسون قال إن "الصحافة واحد من أكبر حصون الحرية"، وغارسيا ماركيز وصفها بأنها "أجمل مهنة في العالم"
"لن تموت الصحافة"، هكذا يصرخ صحفيون وأنصار للصحافة. بعض هؤلاء يجتهدون في قراءة الواقع مراهنين على ثوابت في خضم التغييرات العاصفة، أما الآخرون (الأكثرية) فهم يداورون المزيد من الحجج الهشة والتي تنطوي بمجملها على العبارة الطفولية الخالدة: "لا يمكن لهذا أن يحدث لي". "لا يمكن أن أموت. الموت كتب على الآخرين. يقين في داخلي يقول إنني سوف أحيا إلى الأبد"، ثم ـ ويا للمفاجأة ـ يحدث دائمًا أن نموت.. جميعًا.
اقرأ/ي أيضًا: 4 وقفات في أرشيف الصحافة
معلمو مطبعة الرصاص، خطاطو المانشيتات الصحفية، صانعو سروج الخيل، نصابو النول، مبيضو النحاس.. جميعهم قالوا "إن العالم لن يستغني عنا"، وحتى نعرف كم كانت هذه النبوءة صائبة وحكيمة، تكفينا جولة في متاحف الفلكلور حيث يسكن هؤلاء بعد أن تحولوا إلى تماثيل شمع.
تتعاظم الإشارات المهددة يومًا بعد يوم: الصحف الورقية أفلست وبدأت تغلق أبوابها تباعًا (قبل كورونا حتى)، والصحف الإلكترونية (التي من المفترض أن تحمل الراية) تهيم على وجهها بين آلاف الآلاف من المنابر والمدونات والحسابات الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي. توصيف الصحفي صار غائمًا وبلا ملامح، والمفردة نفسها بدأت بالتراجع والانحسار أمام مفردة أخرى كاسحة (إعلامي) والتي تعني ببساطة كل من ينقر زرًا على كيبورد أو على شاشة.
ومع كل ذلك، يعول المتفائلون (ولنكتفي بآراء الجادين منهم) على عوامل بقاء "راسخة لا تهزها الأنواء". يقولون إن الصحافة غيرت أدواتها وليس مضمونها، "فماذا يعني القارئ إن طالع صحيفة على ورق أو على شاشة ما دام المحتوى هو هو"، ويقولون إنه لا يمكن الاستغناء عن الصحفي، فهو الوحيد الذي يستطيع ما لا يستطيعه الآخرون: التفرغ للبحث عن الحقيقة. ومن بين الأنواع الصحفية العديدة يتشبثون باثنين يرون أن الأمل بالبقاء معقود عليهما: الرأي المعمق، والتحقيق الاستقصائي. "ذلك أن من المحال قيام ناشط فيسبوكي بقضاء أيام، وربما شهور، في مطاردة المصادر والتنقيب عن الوثائق ليعود ببوست استقصائي، كما أن من العبث انتظار رأي معمق، حول أي قضية، من تغريدة محكومة بـ 280 حرفًا".
تملك هذه الحجج وجاهة بلا شك، ولكنها لا ترقى إلى مستوى الإفحام. فمن السذاجة الاعتقاد بأن المستجدات التكنولوجية هي مجرد أدوات ووسائل حيادية بلا أثر، إذ لطالما غيرت الاختراعات من سلوك البشر وعاداتهم وطباعهم، ولكثر ما أطاحت بوظائف ومهن، وخلقت أخرى غيرها، ولا شيء يوحي بأن سنة التغيير هذه سوف تتوقف. إن مقال الرأي في الـ"نيويوركر" هو كلام يعبر عن وجهة نظر، وكذلك فإن النص المنشور على صفحة فيسبوك هو كلام يعبر عن وجهة نظر، ولكن بالتأكيد ليس الاثنان الشيء نفسه. ثمة شيء تغير بالعمق، وثمة ملامح أساسية آخذة بالاختفاء: التحليل العميق، والرؤية المتأنية، والشرح الموسع والصبور، التراكم الهادئ، والجهد المضني المطلوب (كتابة وقراءة)، البطء الخلاق والضروري لفهم عالم معقد ومتشابك.
بالطبع فالبشر سوق يظلون بحاجة إلى الأخبار والآراء والمعلومات ووجهات النظر.. ولكن الاعتقاد بأن هذه الحاجة الخالدة تقدم ضمانًا لخلود مهنة الصحفي، يشبه الاعتقاد بأن حاجة الإنسان الخالدة للماء تقدم ضمانًا لخلود مهنة السقّا.
وما الذي يبقى من الصحافة إذا ما اختزلناها بالتحقيق الاستقصائي؟ أين نذهب بمراجعات الكتب ونقد العروض المسرحية والتعليقات السياسية والصفحات الساخرة والكاريكاتير ورصد الأسواق؟ ألن يغير اختفاء هذه الأشياء في مفهوم الصحافة وجوهرها؟ هل نكون أمام صحيفة إذا ما أنشأنا مدونة الكترونية تتخصص بتلخيص الكتب، أو موقعًا متخصصًا بأسعار العملات فقط؟!
أما حجة التفرغ للبحث عن الحقيقة فهي (مثل كل ما يتصل بمفهوم الحقيقة) شائكة وعويصة، يصعب دحضها كما يصعب إثباتها، وبالتأكيد فإن آلاف الأصوات المحتجة والمستهجنة سوف تتعالى إزاء ربط الحقيقة بالصحافة.
وهل تستحق الصحافة الرثاء؟
دعكم مما فعلته صحف عربية كثيرة بقرائها من خذلان وخيانة للثقة، ودعكم مما اقترفته الصحافة في كل دول العالم من أخطاء وخطايا.. لقد كانت مسيرة ملطخة بالسواد، ولكن هذا لا يعني أن العالم لن يخسر شيئًا باختفاء الصحافة.
لنتذكر كل تلك العقول اللامعة التي منحتها الصحافة منبرًا: كارل ماركس؛ جان بول سارتر؛ البير كامو؛ جورج أورويل؛ ميشيل فوكو؛ عبد الرحمن الكواكبي؛ سلامة موسى؛ طه حسين..
ولنتذكر أي حالة خاصة وفريدة شكلتها الجريدة، ذلك المبنى ذو النوافذ المشرعة على كل شؤون الحياة، حيث يجتمع الشعراء وخبراء البورصة والساسة وهواة كرة القدم والمهمومون بالميتافيزيقيا والمشغولون بالأبراج..
هل نكون أمام صحيفة إذا ما أنشأنا مدونة الكترونية تتخصص بتلخيص الكتب، أو موقعًا متخصصًا بأسعار العملات فقط؟!
وبإطفاء هذا المبنى أنواره فإن العتمة لن تحل على العالم بالتأكيد، ولكن شيئًا ما، حيويًا ومهمًا، سوف يضيع.
اقرأ/ي أيضًا: الرجل الذي شوّه الصحافة
سوف يتقلص حيز الميدان العام مجددًا وربما ينتهي إلى التلاشي، فيكتمل حلول المجموعات المبعثرة مكان الرأي العام، والتفاصيل المجزأة مكان القضايا العامة، والتخصص مكان الانشغال بالعالم.
لهذا نتمنى أن يكون المتفائلون على صواب (وإن بدوا لنا الآن غير ذلك). نتمنى أن يكتب البقاء للصحافة، مع علمنا أن القدر لا يعبأ كثيرًا بالأمنيات.
اقرأ/ي أيضًا: