في لقاء جرى في المركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة، قبل وقت ليس بالقصير، وجمع كلا الروائي صنع الله إبراهيم ومترجمه الفرنسي، تحدث إبراهيم عن قصته مع الكتابه والترجمة، وقدم المترجم الفرنسي مداخلة قص فيها تجربته في ترجمته إلى الفرنسية وعلاقته بالروائي.
وافق صنع الله إبراهيم على تبديل لون عيون إحدى شخصياته في الترجمة الإنجليزية
ما لفت انتباهي في ذلك اللقاء قصة رواها صنع الله عن مترجم أمريكي ترجم إحدى رواياته إلى الإنجليزية، إذ أخبره المترجم أنه يفضل تبديل لون عيون أحد الشخصيات في الرواية من الأزرق إلى الأسود، كي ينسجم مع رؤية القارئ الأمريكي للمصريين. كان ملفتًا للانتباه درجة الصدمة من طلب المترجم الأمريكي، بلا شك فإن رؤيته لهذه المسألة، أي لون العيون، تنطلق من رؤية الغرب للشرق عمومًا، ومصر خصوصًا، وهي باعتقادي رؤية استشراقية مصمتة ترى الأمور من خلال منطق أرسطي يقول إن الشرق "أسمر بعيون سود"، والغرب أبيض بعيون زرق، ومن الأدب والمنطق أن تبقى نظرتنا عنهما على هذه الشاكلة كي لا نجرح المشاعر الاستشراقية للقارئ الغربي.
اقرأ/ ي أيضًا: أليف شافاك: هذا هو بطلي
لكن المفاجيء أكثر كان موقف الروائي الذي وافق على طلب المترجم. عدد من حضور ذلك اللقاء استغربوا الأمر، بينهم فتاة مصرية جلست خلفي بالضبط، وصدرت عنها كلمة واحدة "أيوا" بطريقة استنكاريه استهجانية. قلت في نفسي "ها قد خسر صنع الله ابراهيم قارئة مصرية لأجل أن يربح قراءً إنجليزًا أو أمريكان، أيا ليته لم يذكر هذه القصة".
انتهى اللقاء، التفت إلى الخلف أريد التعرف على هذه الفتاة المستنكرة لتبديل لون العيون، فوجدت عينيها خضراوين!
لا شك أن المترجم الأمريكي لا يعرف الشعب المصري إلا من خلال أفلام الأبيض والأسود، التي لا تتيح له رؤية الألوان الحقيقية للعيون. عيون حسين فهمي مثلًا، أو عيون ممثلات مصريات عديدات. ولا شك أن المترجم ومعه جمهور واسع في الغرب يرى في مصر مملكة أفريقية يكثر فيها الخدم السمر، والنساء السمراوات كما يظهرن في لوحات المستشرقين، الذين يظهرون الملامح العامة للشرق، لا سيما مصر الشرق الساحر القادم من صفحات ألف ليلة وليلة، والمشترك بسمات صارمة مسطرة بالمسطرة. الشرق الذي هو عكس الغرب بالضبط، الأسمر مقابل الأبيض، المتخلف مقابل المتقدم، الكسول مقابل النشيط، العبد مقابل الحر، الرخيص مقابل المكلف، الزراعي الخدمي مقابل الصناعي المنتج. هكذا بنوا خلال قرون رؤية نمطية عن الشرق متوافقة مع مزاج رفاهي يلبي النزعات والرغبات الغربية، ليست إحدى سماتها معرفة الحقيقة بقدر ما يهمها استمرار تغذية الفكرة التقليدية عن الشرق، الفكرة السحرية إياها.
لكن الروائي صنع الله ابراهيم يعرف مصر حقًا خلافًا للمترجم الأمريكي. مصر القاهرة بالضبط التي تحولت خلال ثلاثة أو أربعة قرون إلى مزيج من أعراق وثقافات ولغات، يقطنها التركي والألباني والفرنسي والإنجليزي واليوناني والطلياني، ولابد أن هؤلاء باستمرار وجودهم في القاهرة طوال قرون قد تزوجوا من مصريين ومصريات، فحصل تبديل في لون العيون ولون البشرة، وهو ما يمكن ملاحظته في القاهرة اليوم.
يريد الاستشراق أن يقول إن الشرق عكس الغرب، أسمر مقابل أبيض، متخلف مقابل متقدم
لماذا رضي صنع الله بهذا التغيير الذي اقترحه المترجم الأمريكي؟ ربما يعود لتقديره الشخصي من كون الأمر لا يتعدى تفصيلًا صغيرًا لا يؤثر على أي من عناصر الكتاب أو بنية العمل، ربما كان الأمر على هذا النحو، لكن قناعتنا أنه أمر مخالف لواقعية العمل الأدبي، ومحاولة من المترجم لتغليب العام على الاستثناء، تغليب الرؤية الاستشراقية إياها على الواقع.
اقرأ/ ي أيضًا: "حوارات لقرن جديد".. الروايات وأسرارها
إن خطورة موقف المترجم الإضافية ليست فيما سبق فحسب من محاولة تثبيت الصورة النمطية عن الشرق، وعدم استعداده للمغامرة في تقديم صورة أخرى لقراءه الأمريكان، لكن الخطورة الحقيقة هي في أن المترجم ينسى أن ربع مواطنيه الأمريكان على الأقل من أصول غير أوروبية، قادمين من أفريقيا وشرق آسيا، وأن عيونهم ليست ملونة، وبهذا فالمترجم يغمض عينيه عن الشرق وأمريكا معًا، في سبيل بيع ترجمته، أو في سبيل إرضاء فكرة نمطية لديه لا يريد التنازل عنها أو زعزعتها.
لو تبنينا موقف المترجم إياه لرفضنا نحن الشرقيين حقيقة وجود أمريكان سمر بعيون سوداء، ولأبقينا على صورة الغرب الأبيض الأشقر التي تصدرها دوائر ثقافية سياسية هناك، على أنها الحقيقة العليا التي لا يجوز لأي واقع أن يبدلها، كي لا ينزع مزاجنا الشرقي التي تريد تلك الدوائر تنميطه بحسب أهوائها ومشروعها الكبير للعالم المنفصم المتصارع.
اقرأ/ ي أيضًا: