20-يناير-2016

حرية اللباس رهان جمالي ولكنّه في العمق مدني وسياسي (Getty)

أثناء زيارتي الأولى لمصر سنة 2009 اكتشفت الحجاب على الطريقة المصرية، تعجبت كثيرًا من اندماج فعل التبرج مع المحافظة دون أي نفور اجتماعي ملموس، فالفتاة المصرية تلبس الطرحة الملونة حسب الألوان الدارجة في ذلك الموسم وترتدي أيضا البنطلون الضيّق على جسدها، كما لا يخلو وجهها من إشارات الزينة والتبرج، فهي تقوم بنمص الحواجب ووضع الماكياج مع المحافظة على ستر نسبي للجسد، فهي تخفيه عن عين الرقيب وتعلنه إلى الأعين المشتهية والفضولية في آن واحد لأنّ ملابسها الضيقة تكشف تضاريس جسدها بالكامل.

حرية اللباس رهان جمالي ولكنّه في العمق مدني وسياسي جوهره فلسفة الاختلاف والقبول بالآخر والتنوع الثقافي

لم أتعوّد على هذا النمط من الحجاب في تونس إلا مؤخرًا، أي بعد الرابع عشر من كانون الثاني/يناير 2011، إذ أصبحت بعض الفتيات التونسيات "مأنتمة مع عمرو خالد من فوق ومع عمرو دياب من تحت" وفق العبارة السينمائية لعادل إمام. هذه الظاهرة المستحدثة التي لا تقطع مع الدين ولا مع الحداثة في آن واحد تطرح أسئلة متعددة، فهل أثرت الموضة على الذوق في اللباس في مجتمعاتنا خاصة، ونحن نرى في بعض مناطق الخليج تخصير العباءة الخليجية ليبرز النهدين والمؤخرة بطريقة مغرية لا تقل عن إغراء فستان سهرة مصمم من إحدى دور الأزياء العالمية؟!

هل يمكن اعتبار الحجاب الحديث شكلًا من أشكال التمرّد على الحجاب التقليدي، أو خضوعًا للموضة من زاوية أخرى، أو أنّ هذا الحجاب هو ضرب من ضروب أسلمة الموضة كما حدث في أشياء أخرى كالشمبانيا الحلال، آخر تقليعات الأصوليين والحداثيين في آن معًا؟

ألا يشكل هذا الحجاب الحديث خطابًا يتعالى عن شيوخ الأصولية ويتقاطع مع مسألة تحرر المرأة في المجتمعات المحافظة؟

أليست هذه الظاهرة تساهم في استلاب تلك الفئة من النساء، إذ تترك المرأة منهن نفسها "شيئًا" معدًا للاستهلاك بغاية أن تعجب الآخر، الرجل، فتخرج مسخًا مثيرًا للسخرية والشفقة أيضًا، مظهر دون شخصية أو ملامح، سوى ملامح الانفصام والضياع؟

تستدعي الإجابة عن هذه الأسئلة أن نقف مليًا عند ظاهرة الموضة، ميزة واقعنا المعولم الاستهلاكي بدرجة أولى، قبل انتشار الموضة لدى كلّ الفئات الاجتماعية كانت في فترة ما مقتصرة على الطبقة البرجوازية وما فوق، في شكل من التماهي مع الغرب والبحث عن تمايز إضافي عن العامة، ليقيها من شرّ التشبه بهم. وبعد انتشار الموضة كميزة من ميزات مجتمعات الاستهلاك، لم تعد حكرًا على البرجوازية فقط، بل انتشرت في أوساط العامة، وأصبح الجميع يقلّد آخر تقليعاتها في بلدان الغرب.

هناك من يحاول تفصيل الموضة وفق خصوصيات مجتمعه، ظاهرة اللباس الإسلامي وعروض الفاشن الإسلامية لعدد من المصممين مثالًا، حتى تجد المرأة الملتزمة بتعاليم دينها، أو التي يفرض عليها الحجاب، مكانة في مجتمع الاستهلاك الذي احتفى بالسافرة على أغلفة المجلات وفي إشهار ماركات الملابس والحليّ وخلافه بطريقة أحست المحجبة أنّها ليست موجودة في مجتمعها، أو أنّها لا تحظى بالقبول والرواج، فكانت قولبة الموضة لصالح الخصوصية الاجتماعية لبعض البلدان فرصة رابحة للشركات التي وجدت طريقًا جديدًا في استثمار الجسد، حتى وإن تستر وتغطى، وفرصة أخرى لنساء لم يعدن يحسسن بالنقص أو بالإقصاء من مجتمع الاستهلاك، بل تحررن قليلًا من فتاوي الشيوخ الأصوليين الذين حكموا عليهن في مظهر الفتنة والعورة، فكان لباسها محاولة جديدة لازدراء نظرة الشيوخ بشكل ملطف ومنمق دون أن ينالها الأذى الاجتماعي، ويشار هنا إلى أن الموضة الغربية تحتفي بالمرأة المتحررة وصاحبة الشخصية القوية ذات الملامح الحاسمة، على عكس المرأة في مجتمعاتنا، التي تستهدفها الموضة وهي لا تزال تخطو خطواتها الأولى نحو التحرر، دون الابتعاد كثيرًا عن نوعين من النمطيات، الهوليودية والمحلية.

يلعب الاستهلاك على تغيير صورة الجسد، وتقديم نموذج منمط للمرأة في صورة مثالية، وهي صورة تستجيب للاشتهاءات والتطلعات الذكورية، مما ساهم كثيرًا في شعور بعض النساء بالنقص، فأصبح لباسهن يخضع إلى إرضاء ذوق الجميع، إرضاء البنى التقليدية التي ترفض عري المرأة، وهناك نساء كثيرات من مجتمعنا يلبسن الحجاب على سبيل العادات والتقاليد وليس تدينًا.

هل يمكن اعتبار الحجاب الحديث شكلًا من أشكال التمرّد على الحجاب التقليدي، أو خضوعًا للموضة من زاوية أخرى؟

 فرهان المجتمع التقليدي هو الضبط القبلي للفرد، بدءًا من اللباس وصولًا إلى الجوهر وهو ضبط انفعالات الجسد. كما تسعى المرأة في آن واحد إلى إرضاء الآخر، الذكر تحديدًا، الذي يبحث في شريكته عن جمال نجمات أغلفة المجلات والماركات، فكان "حجاب العمرين" طريقة جديدة لاستعباد النساء بطريقة أو بأخرى، فالمرأة هنا لست حرّة إذ مازالت تخضع إلى التقاليد الاجتماعية ومن ناحية أخرى للشروط الاستهلاكية، مما جعل منها نموذجين في نموذج هجين وغير أصيل ويلغي شخصيتها تمامًا.

تعد حرية اللباس دون ضغوطات واحدة من الخطوات الأولى في طريق التحرر وبناء دولة الحريات والمواطنة، طالما رفض الفرد الدور الرقابي للمجتمع، وناضل بطريقته ضدّ تحالف القيم التقليدية والقبلية في برمجة السلوك العام، فحرية اللباس رهان جمالي ولكنّه في العمق مدني وسياسي جوهره فلسفة الاختلاف والقبول بالآخر والتنوع الثقافي، ومع تحقق شرط حرية اللباس يمكن للفرد، خاصة المرأة، أن يعبر عن شخصيته في مظهره الخارجي دون إملاءات فوقية أو ضغوطات اجتماعية أو دينية.

_____________

اقرأ/ي أيضًا: 

خمس سنوات من الثورة التونسية.. مسار الالتفاف

في تونس.. ثورة للتذكر ونظام للنسيان

ماهو تاريخ عيد الثورة في تونس؟