في كتابه "كل رجال الباشا"، ذكر الدكتور خالد فهمي في معرض تأويله للاستراتيجيات التي استخدمتها سلطات محمد علي باشا لإخضاع الفلاحين إلى نظام صارم حتى يتحولوا إلى جنود. وكان من أهم الأسس التي قامت عليها الدراسة استخدام منهج ميشيل فوكو من خلال كتابه المراقبة والعقاب.
حيث حاول نظام محمد علي أن يعتمد نظام سيطرة خفي وأقل انكشافًا، ولا يعتمد على مشهد العقاب الاستعراضي ولكن على فكرة النظام. وذكر حادثتين إحداهما اضطرت فيها السلطات أن تواجه هروب الفلاحين المستمر من الثكنات بالقتل والذبح العلني، وأنها حين رأت أن هذه الأساليب لم تجدِ نفعًا بدأت تركز على الاعتقال وصورته الذهنية، وتدعيمها كرادع كافٍ للفلاحين من الهرب.
ما جدوى العدالة القانونية إذا لم تُحقق العدالة الاجتماعية؟ وما جدوى العقاب إذا لم يرقَ إلى مستوى بشاعة العقوبة؟
أذكرهذه المقدمة لأنه طُرح في مصر الآونة الأخيرة جدل عن "معنى" عقوبة الإعدام، وكان ذلك على خلفية اغتصاب وحشي تعرضت له طفلة عمرها 20 شهرًا على يد رجل أربعيني.
الجدل الذي اتخذ طريقه في المجتمع، كان يتأرجح بين دفتين متناقضتين تمامًا، دفة تتحدث عن فلسفة عقوبة الإعدام في حد ذاتها ومدى قوتها الرادعة في مواجهة جرائم بحجم ووحشية هذه الجريمة، واتجاه آخر عاطفي -له مبرراته- يرى أن الإعدام هو السبيل الوحيد للردع، بل ويرى أيضًا أنه في حد ذاته غير كاف.
في فيلم "الخلاص من شاوشنك" أو The Shawshank Redemption، جسَّد مورجان فريمان دور رجل -دخل السجن حينما كان شابًا- بعد قتله فتاتين صغيرتين، وعلى مدى عدة سنوات كانت تُعقد لجنة تقييمية لتحديد ما إذا كان يستحق إطلاق صلاح مشروط، فيسألونه: "هل أنت نادم على ما فعلت؟" في كل مرة كانت إجابته تؤكد أنه نادم، ولكن اللجنة كانت ترفض طلبه بإطلاق السراح، وفي المرة التي أخبرهم فيها بأنه كان صغيرًا وغبيًا ولا يدرك ما كان يفعل، استشفت اللجنة من كلماته ندمًا عميقًا على الوقت الذي قضاه من عمره خلف القضبان.
اقرأ/ي أيضًا: مصر.. اختطاف الأطفال كابوس مستمر
الحقيقة أننا في مجتمعات لا تقدس سلطة القانون، ليس فقط لأن القانون غير مفعل وغير معمول به وتجاهله مقصود، بل لأن القائمين على تنفيذ القانون في مصر انتقائيون في عدالتهم، ويعانون أزمة عميقة متداخلة ومتشعبة منذ سنوات في تنفيذ القانون، ولأن السؤال المتعلق بمن يجوز تطبيق القانون عليه ومن يكون استثناءً، لا يزال سؤالًا يُطرح في أروقة المحاكم في مصر، فنشهد من يفلتون من العقاب بعد أن غيَّر فسادهم وجه مصر سنوات طويلة ماضية وقادمة، بينما يقع فريسة الموت والمرض والامتهان بعض الذين لم توجه لهم تُهم بعد، ويتعفنون بالمعنى الحرفي خلف قضبان السجون.
إذن العدالة في مصر غائبة، والقائمون عليها انتقائيون، ويعتمد تطبيق العدالة على هوية المتهم في المقام الأول. فكيف يمكن في وسط مشوه كهذا أن يطرح سؤال حول مدى حسم أو ردع عقوبة ما؟ أو كيف يمكن أن يكون هناك ثقة في القانون في مجتمع كهذا؟
العدالة في مصر غائبة، والقائمون عليها انتقائيون، ويعتمد تطبيق العدالة على هوية المتهم في المقام الأول
النقطة الثانية هي التساؤل الذي أطلقه البعض، كان حول الصحة العقلية والنفسية لمرتكب جريمة الاغتصاب، وهو أمر بديهي ومهم، ولكن إذا كان المرض العقلي مسوغ للإفلات من العقاب في كثير من دول العالم فكيف يمكن أن نعوض الخسائر الجسيمة الناتجة عن هذه الجرائم؟ الروح التي أُزهقت وذهبت بالعذاب إلى العالم الآخر أو الألم الجسدي والمعنوي الذي سيلازم الضحية طوال حياتها بخلاف تشوهاتها الجسدية، من سيحاسب على هذه الفاتورة؟
وإذا كان الرأي العام غير متسامح في قضايا انتهاك الجسد وخاصة للأطفال، فإنه على حق، فالتاريخ يذكرنا بقضايا أخرى أفلت فيها المجرمون من العقاب لحداثة سنهم مثلًا كما حدث في قضية الطفلة زينة التي اغتصبها مراهقان ثم ألقيا بها من سطح منزلها. فما جدوى العدالة القانونية إذا لم تُحقق العدالة الاجتماعية؟ وما جدوى العقاب إذا لم يرقَ إلى مستوى بشاعة العقوبة؟
ككاتبة لهذا المقال وكأم، كنت أرفض عقوبة الإعدام، حتى وجدت نفسي أمام قضية هذه الطفلة التي تعرضت للاغتصاب، وهي لم تكمل عامها الثالث، ووجدت الإعدام وحده ليس كافيًا، وطوال الوقت أسأل نفسي: هل عقوبة الإعدام كافية؟ هل ستعيد لهذه الطفلة براءتها وحياتها؟ أم أن ساعتها توقفت هنا وإلى الأبد؟ ثم وجدت نفسي أتمنى لو أنها ترحل عن هذا العالم كي لا تدفع فاتورة لا تعرف عنها شيئًا!
اقرأ/ي أيضًا:
المعنفات في مصر.. حزينات لا ينقذهن القانون
عن سيادة القانون في مصر