جاءت دراسة الكاتب الألماني باتريك زوسكيند المعنونة بـ"عن الحب والموت" (ترجمة نبيل الحفّار، دار المدى 2017) متصلةً بالأبحاث والقراءات التي قام بها أثناء بحثه المضني لكتابة سيناريو لشريط سينمائي عنوانه "في البحث عن الحب واكتشافه"، الذي كلّفه به صديقه المخرج الألماني هيلموت ديتل، وجاءت أيضًا متصلة بسؤال جوهري في أعماله، عن كون الحب والموت متلازمين على الدوام، كما في روايته الأشهر "العطر: قصّة قاتل"، حيث يمضي جان باتيست غرنوي إلى قمة الحبّ، حبّ ذاته، أو حب أن يكون محبوبًا، عبر قتله للعذارى الجميلات، ليصل في النهاية إلى الموت مأكولًا.
يرى زوسكيند أن الحب يحتوي على أمر ملغم، لا يمكننا معرفته بدقة
عُرٍفت عن "الطفل الحلو" (وهي الترجمة الحرفية لمعنى اسم باتريك زوسكيند بالألمانية) حواراته الهادئة بين الشخصيات القليلة التي تستند إليها رواياته، حتى أنها تكاد أن تكون همسًا، ولعلّ ذلك عائد إلى حبّه للعزلة والانفراد، الذي أثّر فيه بطبيعة الحال على إيجاد صلة وصل بين عمق التفكير والصمت.
اقرأ/ي أيضًا: باتريك زوسكيند.. قصة مشّاء
تأخذنا الدراسة عبر الزمن إلى وقت كان فيه الحب يسمّى أيروس، بينما كان الموت يدعى ثاناتوس، وتنقلنا في الوقت نفسه أفكار الفلاسفة والكتّاب والفنانين، في مختلف العصور، في ربطهم بين الحب والموت، كما لدى أفلاطون، وشكسبير، وريتشارد فاغنر، وتوماس مان.. إلخ.
يأخذ الحب القسم الأكبر من هذه الدارسة للروائي باتريك زوسكيند، على الرغم من تأكيد صاحب "الكونترباص" أنه يحتوي على أمر ملغم، لا يمكننا معرفته بدقة، وعلى نحو كافٍ، معتبرًا إياه عاصفة هوجاء، تسونامي، تضرب كيان الفرد. ويتماهى باتريك زوسكيند مع الرأي القائل بأن الحب عرض من أعراض الهوس العقلي المندفع بغير لجام، واصفًا إياه بمتلازمة الغباء: "لا بدّ من فترة زمنية تتراوح بين العشرين والثلاثين سنة لقراءة رسائل العشق مرة أخرى، فستغمر وجوهنا الحمرة من شدة الخجل والسذاجة على ما كتبناه". بتلك السخرية السوداء يعيد باتريك زوسكيند أنسنة موضوعه، ويتابعها بقوله: "إن من المعروف أن النقاش عقلانيًا مع عاشق أمر غير وارد، لا سيما في موضوع عشقه، فالتحذيرات التي تبغي مصلحته، والحجج التي لا تُدحض، والملاحظات الواقعية الجليّة، تتحطّم على صخرة (لكن) كبيرة: لكنني أحبها أو أحبه!". ويسرد باتريك زوسكيند بعدها الوجوه السوداء للحب: الحب الكلبيّ من قبل الآباء للأبناء العاقين، الحب الروحي عند الراهبات تجاه زوجهن الرباني، الحب التعبدي عند الرعايا للقائد.. سخرية قاسية تصل إلى درجة الرثاء.
بالنسبة للروائي الألماني باتريك زوسكيند، لا يُعرف إن كان الموت موضوعًا في حد ذاته أصلًا، فمنذ مئتي سنة وحتى الآن يميل الموت إلى الصمت، لا بل إننا قتلناه صمتًا، ليس لأننا لا نعرف عنه شيئًا، بل لأنه نافٍ أبدي وهادم للذات، ولا يعرف كيف تم الربط بين الحب والموت. هكذا سوف يسأل سؤال الحائر: "لماذا كان الحب متصل بالموت، وعلى نحو جوهري لا فكاك منه منذ القديم حتى يومنا هذا؟".
ليس بين الحب والموت إلا رحلة بحث، وهذه الرحلة أكثر ما تأخذ شكلها في الأدب
ليس الحب والموت إلا رحلة بحث، وهذه الرحلة أكثر ما ستظهر صورها المشرقة في الأعمال الأدبية، حيث ندخل إلى الأعماق ونستكشف سر العشق، إذ يكون أحيانًا أكبر من الموت، كما هو حبّ سالومي، الأميرة الفاتنة، في رواية أوسكار وايلد. سالومي أمرت بقطع رأس المتعصّب الذي صدّها، إذ يتداخل لديها الحب والموت، فتأمر بقطع عنقه لتقوم بتقبيل شفتيه اللتين تقطران دمًا، بشغفٍ يجعل الحب لا يكتمل إلا في الموت، كما لو أنهما الشيء نفسه. مثال آخر يقدمه عبر العاشق التسعيني أشنباخ، في رواية "الموت في البندقية" لتوماس مان، الذي يقع في حب فتى في بدايات عمره، ويصل إلى فكرة جوهرية "أن الحبّ الحقيقي يحمل فكرة الموت".
اقرأ/ي أيضًا: باتريك زوسكند.. انعزاليون في عالم عدائي
الدراسة الشيّقة قصيرة للغاية، لكنها تحمل خلاصات جوهرية شديدة الكثافة، تجعلنا نرى باتريك زوسكيند وكأنه شخصية في رواية يكتبها هو نفسه عن نفسه، عن شخص عالق في سؤال بسيط ومعقّد في آن، تمامًا مثل سؤال القديس أوغسطينوس عن الزمن، حين قال إنه كلما قلّلنا تفكيرنا فيه بدا لنا أنه أكثر بداهة.
اقرأ/ي أيضًا: