من المؤكد أن الشعور بالدهشة ومن ثم التأمل هو أول الفلسفة، وأما وصف الشعور بإرهاف الحروف فهو الشعر. والفلسفة نفسها بدأت نصًا شعريًا، وإذا كانت الفلسفة تجلي الروح في بحثها عن الحقيقة، فإن الشعر تجلي الروح في عشقها للجمال. وقد قيل "إن موت الفلسفة يلازمه موت الشعر".
نستنتج أن النظرة إلى الفلسفة وعلاقتها بالشعر استنسابية وتتأرجح بشكل مضطرد، فلا يعقل أن يتم اتهام الفلاسفة بأجمعهم بالتطرف العقلي أو بالجنون مثلًا، ولا أن نحكم على الشعر أو الشعراء أحكامًا نمطية بالقول إنهم "عاطفيين" يعيشون في الخيال والوهم. فالعلاقة كانت على الدوام متأرجحة تبعًا للمكان والزمان والفكر السائد في العصور المختلفة.
حدث الانفصال بين الفلسفة والشعر حين وصف أفلاطون الشعراء بأنهم "صناع وهم ومفسدو عقول"
كذلك فالعلاقة لا يمكن قياسها وفقًا لعلاقة الأب - الابن، أو كعلاقة الزوج - الزوجة، فالعلاقة مرت وتمر بمراحل معقدة على الدوام يمكن وصفها بثنائية الزواج - الطلاق تبعًا لظروف واعتبارات عديدة، ويضاف إلى ذلك الاختلاف في طبيعة وأساليب كل من الفلسفة والشعر.
العداء الفلسفي للشعر
بينما في المقلب الآخر نجد أن الانفصال بين الفلسفة والشعر حصل حين وصف أفلاطون الشعراء بأنهم "صناع وهم ومفسدو عقول"، واتهم الشعر بالخيانة وأوصى بإقصاء الشعراء عن الجمهورية. إلا أن أفلاطون بدأ بفك أواصر هذا التلاحم الحميمي بين الفكر والنظم، بل بين الفلسفة والشعر، على اعتبار أن الفلسفة اشتغال بالمعرفة والفكر فيما الشعر يشتغل بالعاطفة، واعتبر أن الفلسفة (العلم) تكشف عن الحقيقة فيما الفن (الشعر) يبعد عن الحقيقة.
اقرأ/ي أيضًا: كيف يُمكن للفن أن يُزور القبيح؟
اتخذت كلمة المحاكاة عند أفلاطون معنى رديئًا، وأبدى حقد على الشعر واعتبره عدو الفلسفة اللدود ونقيضًا لها. فالفن عمومًا، ومن ضمنه الشعر، يحاكي العوالم الحسية واعتبر هذه المحاكاة تشويه للنماذج الأولية الأصلية، واعتبر أن الشاعر يقوم بعملية تقليد قبيحة لا فائدة منها. فالنموذج المثالي أسمى من أن يتم تقليده ومحاكاته لأن الفنان أو الشاعر يحط من قيمة النموذج الأصلي. ويضرب أفلاطون أمثلة بقصائد هوميروس التي تصف الآلهة بصفات غير لائقة وساخرة.
وبهذا قامت الفلسفة مع أفلاطون بمحاكمة الشعر وأصدرت بحقه أقصى العقوبات التي يتعرض لها الخونة، فالتهمة الموجهة إليه الشعر كانت الخيانة للحقيقة والعقل والمجتمع وبالتالي خيانة للفلسفة.
كذلك، اتخذ فلاسفة آخرون العداء للشعر، من بينهم رينيه ديكارت في القرن السابع عشر، وجون ستيوارت مل في القرن التاسع عشر، وتوماس بيكوك يعتبره "نشاطًا متخلفًا لا ينتمي الى روح العصر الذي تهيمن عليه المعرفة والعقل والتنوير". وأما توماس هكسلي فقد نعى الشعر واعتبر أنه من الحمق والشعوذة وجوده في عصر العلم والمعرفة والتنوير. وطرح جورج بواس مقولته "تكون الأفكار في الشعر عادة غالبًا زائفة"، وأما ت.س إليوت فيقول: "لا شكسبير ولا دانتي قاما بأي تفكير حقيقي".
التحام الفلسفة مع الشعر
كان القالب الشعري في الفكر الإغريقي له أساس جوهري في الخطابة، بحيث كان يتخذ هذا الفكر من الصياغة الشعرية وقبل ذلك، كان يتخذ الفكر من الصياغة الشعرية وسيلة للتعبير عن حقائقه ومضامينه، ونجد أن صاحب الإلياذة هوميروس كتب فلسفته بحروف من الشعر، وتبلغ أوج الحميمية مع شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري.
مع أفلاطون، قامت الفلسفة بمحاكمة الشعر وأصدرت بحقه أقصى العقوبات التي يتعرض لها الخونة
ويمكن اعتبار أن هناك شاعرًا داخل الفيلسوف أو العكس، وبأن الشعر يخدم الفلسفة، وبأن الفلسفة تخدم الشعر، وبأن هناك خيوطًا كثيفة مترابطة بينهما. وكذلك نجد أن ابن سينا والفارابي والجاحظ وأبا تمام والبحتري وأبا العلاء المعري والمتنبي وأبا حيان التوحيدي وأبا العتاهية دافعوا عن الشعر واعتبروا أن فيه فوائد ومنافع ومتعة ويحث على الفضائل الإنسانية.
اقرأ/ي أيضًا: المعرفة الجمالية في الفلسفة
نشر جان بول سارتر فلسفته الوجودية بواسطة الأدب والفن، ووضع ألبير كامو فلسفته في العبث منطلقًا من الرواية والمسرح أيضًا، وكذلك درس ميلان كونديرا العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والأدب وقصائد كارل ماركس، ووضع سيغموند فرويد دراسات حول أعمال ليوناردو دافنشي وفيودور دوستويفسكي. وكذلك نجد لدى شعر الثورة عند الكثير من الشعراء الذين فلسفوا الحرية وحب الأوطان.
دافع العديد من الفلاسفة عن الشعر، حتى الفلاسفة الذين أوصلهم الفكر إلى الجنون، فنجد أن فريدريك نيتشه يكتب "يجب العودة إلى ما يعتمل في أنفسنا من عناصر بدائية للارتشاف من نبع العاطفة حتى ولو أدى ذلك الى تحطيم الفكر التحليلي". وأما الروائي د. هـ. لورانس فيرى أن "هيمنة العقل وتغلبه على العاطفة هو المسؤول عن مصائب القرن العشرين".
الفلسفة باعتبارها بحثًا عن الحقيقة تتوسل باللغة، والأدب يبني عالمه على اللغة أيضًا؛ فاللغة هي القاسم المشترك بين المجالين، ولكن ليست اللغة فقط وإنما هناك علاقة أخرى تجمع بينهما، وهي علاقة معرفية فما تتوصل إليه الفلسفة يجسده الأدب بأجناسه المختلفة من شعر وقصة ورواية ومسرح.
علاقة ملتبسة
في حديثه لـ"ألترا صوت"، يقول الدكتور خنجر حمية، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية: "لم تكن العلاقة بين الشعر والفلسفة يومًا علاقة ود، وهي استوت منذ أزمان بعيدة على التباس عميق وسوء ظن".
ويضيف "إن إعادة فهم وجه الارتباط بين الفلسفة والشعر، تقتضي إعادة التفكير في موضع اللغة، وقد كان السؤال التقليدي حول ماهية الفلسفة وماهية الشعر يصاغ كما يلي "ما الذي يقصده القول الفلسفي ويعبر عنه؟ وما الذي يقوله الشاعر؟ أو ما الذي يكشف عنه الكلام الشعري؟ وما الذي تكشف عنه لغة الفلسفة كذلك؟".
برأيه أن هذا السؤال كان مدخلًا خاطئًا، لأنه تطلب افتراض أن كلا الشاعر والفيلسوف يمارس الاستماع إلى شيء يأتيه من الخارج، وأن اللغة تكشف عن الأصول التي يجسدها صوت العالم من حولنا وصداه عبر كتابة من وحي الحقيقة، صوت هو هناك يسبق وجودنا ووجود اللغة ووجود الفكرة نفسها.
ويشير الدكتور حمية بالقول "هنا تولد السؤال الإشكالي، الذي رسخ الافتراق وحوله إلى مأزق، وأصبح سؤالين هما: ما الذي يسمعه الفيلسوف؟ وما الذي ينصت إليه الشاعر؟ وكان الجواب أن الفيلسوف ينصت إلى صوت الحقيقة كما تتبدى في سطوع العالم، وأن الشاعر ينصت إلى خياله وأوهامه الباطنة وتهويماته وخلجات وجدانه وعاطفته المتقدة وأحلامه".
الفلسفة باعتبارها بحثًا عن الحقيقة تتوسل باللغة، والأدب يبني عالمه على اللغة أيضًا
لذا، وحسب تعبيره، كان على الفلسفة أن تنعطف نحو "إعادة التفكر في وظيفة اللغة لتدرك وجه الخطأ في موقفها، ولتعيد توليد السؤال على ضوء ذلك سؤالًا واحدًا لا تعدد فيه، صيغته هي التالية: ما الذي يجعل أن ما ينبثق يكون قصيدة؟". وعلى الفلسفة، إذًا، كما يفسر الدكتور خنجر حمية في حديثه "إذا كانت وظيفتها القصية ودورها أن تلتقط، في لحظة، حدث انبثاق العالم وظهوره، وأن تنصت لصوت الوجود وهو يتدفق سادرًا في مسارات اشتعاله، أن تصغي وتستمع حين يتألق شاعر".
اقرأ/ي أيضًا: الفلسفة والأدب.. سردية حب معلن
يتساءل أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية، ويذكر "لغة الشعر إذًا حدث انبثاق! هنا حيث ينبع الكلام يتولد عالم وينبثق. ففي الكلام، الشعر، يتبدى العالم، أو الوجود لا فرق، في كامل إهابه، معلنًا عن نفسه مسفرًا عن وجهه، لا كما يظهر ويتبدى في رتابة الحياة اليومية وفي صمت أشيائها، بل في التدفق والتوهج وفي التوتر والاختلاف. هنا تنبت الأشياء نفسها وتولد، لا كما تظهر الصور في مرآة، بل كما تنبثق العاصفة ويندفع المطر".
بين الأكذوبة والمعرفة
يوجه نيتشه، على لسان زرواستر، إلى الشعراء هذه المرة لوم الإصغاء إلى السر نفسه فيقول: "يخيل للشعراء أنه يكفي أن يذهبوا ويستلقوا على العشب على سفح منحدر منزويين، وأن يصغوا ليلتقطوا بعضًا مما يجري بين السماء والأرض، ولكن العديد من الأمور التي تجري بين السماء والأرض هي من نسج خيال الشعراء وحدهم، وليس مرد ذلك إلى أن الأصوات الباطنة مضللة لا مناص، بل لأن العقل يتكلم أيضًا في باطننا بصوت مرتفع وقوي، إلا أن البعض يؤثر الإصغاء إلى جنيات البحر، وهم بذلك يختارون الاستسهال ويستبدلون الأكذوبة بالمعرفة".
وعمد نيتشه نفسه على لسان زرواستر، وهو كان جلد لتوه كذب الشعراء، إلى تصويب نقده على الفور فقال: "نحن، أي الفلاسفة، نكذب كثيرًا"، مصنفًا نفسه في خانة من صوب عليهم سهامه، ثم عقب مصرحًا أن الشعر هو الملاذ الوحيد للخروج من صمت العالم، ومن رتابة اللغة وعجزها عن أن تبلغ التخوم، فقال: "ها أنا أتكلم بغموض وأتلعثم كما يفعل الشعراء، والحق أنه لا غنى لي عن الأمثال والاستعارات والصور".
وفي نص أدبي صغير، تحامل كانط على بعض الفلاسفة "لأنهم يضلون صوت العقل ويصغون إلى الوحي الإلهي داخلهم" حسب قوله، "ولأنهم يستمعون إلى الصوت الباطن السيئ المنبثق من أعماقهم" بحسب ما جاء في تفسيرات الدكتور خنجر حمية.
اقرأ/ي أيضًا: