لا يعرفون عن مسلسل "ابتسم أيها الجنرال" أكثر من عنوانه وأسماء صنّاعه، ولا تتوفّر لديهم من معطيات سوى ما وفّرته الشركة المنتجة من لقطات ترويجية، ومع ذلك تراهم لا يخجلون من إطلاق حملة مضادة له، تصل في بعض تفاصيلها إلى اتهامه بخيانة الثورة، عبر الافتراء بأن إنتاجه جرى بالتنسيق مع النظام السوري. وهكذا بات ذلك النظام الذي عرفناه يسجن البشر لأجل لايك قابلًا لأن يتآمر على نفسه. وبعضها الآخر يروّج معلوماتٍ كاذبةً كليًّا من قبيل أن المسلسل مصوّر في سوريا.
هي إذًا عجيبة جديدة لا تقبلها إلا بلدان خارج العقل والمنطق كسوريا، فأن نتحدث عن مسلسل لم يُعرض، ونتهم أناسًا لا بما لا نعرف، بل بما لا يمكن أن يحدث أصلًا، فذلك أمر لا يقال عنه فوق صفات الغباء والاستحمار إلا أنّه ينطلق من قلة في الأخلاق، وخلل في الضمير.
لا شكّ أن مطالبة الناس بعملٍ وثائقيّ هي مطالبة واجبة، وتمتلك الشرعية الفنية والأخلاقية كاملةً، لكن يجب ألا يغيب عن بال أحد أنّ واحدة من كبرى مشكلات العالم العربي، وسوريا بشكل خاص، هو غياب المعلومات
ما الخديعة في مسلسل الكاتب سامر رضوان الجديد؟ كيف خُدعنا به ونحن قبل أسبوع تقريبًا لم نكن نعرف عنه شيئًا؟
الخديعة التي نعرفها جيدًا هي أنّ جزءًا كبيرًا من جمهور المسلسلات التي أنتجها النظام طوال العقد الفائت لتأكيد مقولاته وتبرير جرائمه هم من المعارضة. والخديعة أيضًا أنَّ فناني النظام السوري المتدرجين من الأبواق إلى الشبيحة، وصولًا إلى مجرمي الحرب، لا يزالون يلقون حفاوةً ومحبةً عند الجمهور الذي لم يتوانوا عن شتمه والاستهزاء بآلامه.
أيّ عمل فني احترافيّ ناقد للسلطة، أية سلطة في العالم، هو عمل يستحق الاحترام. وحين تكون هناك جهة إنتاج هي الوحيدة التي تتكبّد مشقّة تبني موقفنا، وتضع الملايين لتنتج لنا الأفلام والمسلسلات.. ولا نكتفي برفض ذلك بل نثير حوله الشبهة والشك، في وقتٍ نرى فيه رؤيةَ العيان كيف يتسابق من أمامنا الجميع للعبور على جثث شعبنا ومصالحة الدكتاتور دون خجلٍ، في ما يشبه سيركًا مفتوحًا من العهر الأخلاقي، فذلك يصعب فهمه على الأسد نفسه!
البعض أزعجهم أن المسلسل يتخذ خيارًا رمزيًا من خلال ما ظهر لهم من مقاطع الفيديو الترويجية، وعدّوا ذلك تهربًا من المسؤولية الأخلاقية لصنّاع العمل، مع أنّ تاريخ الفن أكّد مرارًا أنه ليس من شأن العمل الفني أن يكتب تاريخًا وثائقيًا، لأنه يناقش الحاضر من خلال التاريخ، كما لا يسعى لرسم صورة مطابقة للواقع حرفيًّا، بل يتكثف مسعاه في هضم هذا الواقع ومن ثم التعبير عنه ضمن فهم شامل.
في المسلسل الأمريكي "هاوس أوف كاردس" (House of Cards)، ما من أهميةٍ لمحاولة معرفة أي الرئيس الحقيقي الذي يمثّله رئيس الحكاية، ولا ضرورة لمدى الدقة الواقعية للمؤامرات التي أدارها البيت الأبيض وأشرف عليها، لأنّ ما يهمنا هو أن البنية السردية للمسلسل قادرة على تشكيل تصوّر عن كواليس مؤسسة الرئاسة الأمريكية، والعقلية التي تقوم عليها وتعمل بها. أمّا معرفة حقيقة ما يجري في البيت الأبيض، وبالمثل ما يجري في مقرات القرار السياسي حول العالم، فعلى عاتق الصحافة والأفلام والكتب الاستقصائية.
مطالبة الناس بعملٍ وثائقيّ هي مطالبة واجبة، وتمتلك الشرعية الفنية والأخلاقية كاملةً، لكن يجب ألا يغيب عن بال أحد أنّ واحدة من كبرى مشكلات العالم العربي، وسوريا بشكل خاص، هو غياب المعلومات حول عمل وحياة رؤساء البلديات، فكيف برؤساء الدول، والطغاة منهم على وجه التحديد؟
لا شك أن توفر محاضر الاجتماعات والمراسلات وشهادات الفاعلين والفيديوهات.. تساهم في فهم طبيعة الحياة والعلاقات بين أفراد الأسرة الحاكمة، لكنّ النظام في سوريا لم يسقط مع الأسف لنقع على أرشيف ذلك، لا ليساعدنا على صناعة المسلسلات التلفزيونية، بل قبلها لنفهم من هم هؤلاء الذين حكمونا، وكيف استطاعوا أن يفعلوا ذلك!
لنتذكر أن نظام صدام حسين خُلع منذ عشرين سنة، ولم يظهر خلال هذا الوقت عمل عراقي أو عربي عنه، وكل ما لدينا أعمال من قبيل المسلسل الأمريكي "بيت صدام"، وذلك عائد طبعًا لأنّ النظام العربي المالك للإنتاج الفني والثقافي لم يسمح بمرور مثل هذا العمل، لأنّ صدّام جزء منه، كيف له أن يشهّر بنفسه؟ بالمثل لم نشهد مسلسلًا عن ياسر عرفات، على الرغم من ظهور إشاعات كبيرة حول مثل هذا المشروع مرارًا، وبالطبع إنّ عرفات كركن من أركان النظام العربي، وفي الوقت نفسه كتعبير معقّد عن العلاقة المشاغبة معه، لا تسرّ الكثير من الأطراف السياسية أن يظهر للعلن.
هل ما يحدث مازوشية ثورية تتعلّق بمرحلة الإخفاق؟ أم هي غيرة من معارضين يريدون أي إنجاز أن يأتي من خلالهم، لأنهم الأكثر جدارة في فعله؟
هل يمكن أن نتذكّر أيضًا بأننا لم نشهد أي فيلم مصري خلال عقد عن حسني مبارك، مع أنّ بلده معروف بالصناعة الفنية الكبيرة، وفي تناول السير الذاتية للرؤساء؟
لسنا بصدد التنكر لحرية إبداء الرأي في الأعمال الفنية، بل على العكس تمامًا، غير أن إطلاق الآراء التي لا تستند إلى رؤيةٍ ووعيٍ يصبّ في حالة التشويش على المحاولات الجادة لخلق مناخ حرّ يتناول الأعمال الفنية بالدراسة والنقد من جهة، ويساهم في فرز الأعمال نفسها بين جادة واستهلاكية من جهة أخرى. يضاف إلى ذلك أن المسألة لم تعد متعلقةً بعمل محدد، بل باتت ظاهرة متكررة تستحق وقوفًا تحليليًّا من علم الاجتماع، فقبل فترة حدث ذلك لفيلم "الحارة"، وقبله لـ"أصحاب ولا أعز".. إلخ.
هل ما يحدث مازوشية ثورية تتعلّق بمرحلة الإخفاق؟ أم هي غيرة من معارضين يريدون أي إنجاز أن يأتي من خلالهم، لأنهم الأكثر جدارة في فعله؟
يظنّ المجتمع المصاب بصدمة عظمى أنه سيصل إلى يوتوبيا، ضمن رؤية خلاصية. وذلك تعويضًا عن العذاب والعسف والجور الذي وقع عليه، كي يقنع نفسه أنه على ما يرام منذ البداية وما جرى مجرد مرحلة عابرة، أو أنه ذنب الآخرين، في حين أنّ ذلك كله انعكاسات لمرضٍ لم يشفَ بعد.
على هذا كله؛ ألا يبدو النقاش الحاد والعنيف عارضًا من أعراض مرضنا الجماعي؟