قبلَ أيام معدودة، أعلنت الكاتبة البوسنية من أصل يهودي لانا باستاسيتش عزمها على إنهاء عقدها مع دار نشر ألمانية، وذلك كموقف أخلاقي منها احتجاجًا واعتراضًا على موقف الدار الصامت على الجرائم الإسرائيلية في غزة، والمتواطئ ضمنًا مع قرار الحكومة الألمانية الداعم لإسرائيل في حربها هناك.
يُعتبَر موقف هذه الكاتبة موقفًا متقدّمًا بشكل أو بآخر، لا يُظهِر فقط وعيها وإدراكها بحقيقة القضية الفلسطينية وما يجري في فلسطين، بل يدلّل على فهمها العميق للصهيونية كأيديولوجيا استعمارية، لا عقيدة أو ديانة قومية.
ليسَ موقف هذه الكاتبة التي تنحدر من أصول يهودية هو أول وآخر المواقف، فمنذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، انطلقَت حركة احتجاجية تحت مسمى "ليس باسمنا"، انخرط فيها الكثير من اليهود عبر العالم، وتعالت فيه أصواتهم الهاتفة –خاصة داخل الولايات المتحدة الأمريكية- ضدّ حرب إسرائيل على غزة، حيثُ حرصوا على إدانة المجازر الإسرائيلية هناك، وأكّدوا على أنّ هذه الجرائم عليها ألا تحدث باسمهم كيهود، لأنّهم أعرف الناس بطبيعة الحركة الصهيونية وحقيقتها، وأساليبها في غسل دماغ الأشخاص الذين يدينون بالعقيدة اليهودية حول العالم، وإقناعهم بأفكار خاطئة عن تاريخ فلسطين والاستعمار فيها.
تجيء هذه الحركة الاحتجاجية وغيرها لتخبر عن جماعة من البشر فهموا الصهيونية واليهودية على حقيقتهما، وعرفوا أنّ عقيدتهم اليهودية لا تستدعي منهم بالضرورة أن يتبنوا الأيديولوجيا الصهيونية. وعن الفرق بين الصهيونية واليهودية يقول المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه في حلقة من حلقات برنامج "المقابلة": "الصهيونية أيديولوجية واليهودية عقيدة"، ويضيف: "في كل مرحلة من مراحل الصهيونية، لم تكن غالبية اليهود في العالم صهاينة، وحتى اليوم أعتقد أن غالبية اليهود في العالم ليسوا صهاينة، لكن ماذا حدث؟ لماذا لدينا انطباع بأن كل اليهود في العالم هم صهاينة أيضًا؟ لأنّ المؤسسات اليهودية هي مؤسسات صهيونية، ولكن كما تعلمون، لم يكن اليهود في بريطانيا وأمريكا جزءًا من المؤسسة بالضرورة".
عزمي بشارة: "نقل تهمة اللاسامية إلى الشعب الذي يعيش في ظل الاحتلال طمسٌ لخصوصية اللاسامية الدينية والأيديولوجية والاجتماعية التي واجهها اليهود تاريخيًا بوصفهم أقليات دينية في أوروبا"
يعلقّ بابيه على خرافة الربط بين اليهودية والصهيونية، واعتبار معارضة الصهيونية شكلًا من أشكال معاداة السامية: "أهم ما نتج عن تلك الخرافة، أنّ السلاح الرئيس الذي تملكه إسرائيل لإسكاتك إن كنتَ في لندن، لإسكاتي إن كنت في الدنمارك؛ هو القول أنه بانتقادك إسرائيل فأنت معادٍ للسامية، وأنت ضدّ اليهودية، وأنا أقول: لا، لا، أنا يهودي ولا يمكن أن أكون ضدّ اليهودية، لكنني ضدّ الصهيونية لأنني ضدّ العنصرية، لأنني ضدّ الاستعمار، أنا ضدّ الاستعمار الاستيطاني. أنا ضدّ التطهير العرقي لهذا أنا ضدّ الصهيونية ولا علاقة لهذا باليهودية".
سواء تعلّق الأمر ببابيه أو الأشخاص الضالعين في الحركة الاحتجاجية "ليس باسمنا"، فإنّ هؤلاء جميعًا يُدركون أنّ الضحايا الفلسطينيين يُقاومون دولة الاحتلال لأنها دولة احتلال استعماري استيطاني، وليست لأنّها دولة يهودية، وهم يَعرفون كذلك، وكما أورد عزمي بشارة، بأنّ "نقل تهمة اللاسامية إلى الشعب الذي يعيش في ظل الاحتلال طمسٌ لخصوصية اللاسامية الدينية والأيديولوجية والاجتماعية التي واجهها اليهود تاريخيًا بوصفهم أقليات دينية في أوروبا".
إنّ حكومة ألمانيا التي حرصت منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة على إعلان موقفها الداعم بشكل كلي لإسرائيل، والتي برزت مؤخرًا في موقفها المساند لها والمدافع عنها ضدّ دعوى جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية؛ تُثبت هذه الحكومة بأنّ إسرائيل نجحت وما زالت تنجح في حصرها في زاوية ضيقة تُدعى عقدة الذنب الألمانية، وهي عقدة قديمة جديدة تستخدم فيها "إسرائيل" المحرقة اليهودية "الهولوكست" من أجل ابتزاز التعاطف الدولي الأوروبي وجرّه وراءها، وهو ما لم تنجح به مع الكثير مع يهود العالَم الذين يَعرفون الحقيقة حقّ المعرفة، والذين يرفعون أصواتهم ضدّ ألمانيا وغيرها من الدول الداعمة لإسرائيل، طالبين منها ألا تتحدّث باسمهم وباسم المظلمة التاريخية التي حدثت لهم -ولا علاقة للفلسطينيين بها-، وألا تكون ملكية أكثر من الملك!