منذ متى لم يعد وجه الكلب أو القط في اللوحة أو الصورة هو وجه الكلب أو القط بإطلاق؟ منذ متى بات لكل حيوان أليف ملامح خاصة به، وبتنا نستطيع تمييزه عن غيره؟ ليس قبل هيغل طبعًا، نظريًا، فهو القائل: كل الفئران رمادية وكل البقرات سود. وليس قبل انتشار التيار الكهربائي في البيوت وإضاءة الشوارع. قبل هذا التاريخ، كان السود كلهم متشابهون بالنسبة للبيض، والآسيويون يحملون سحنة واحدة بالنسبة للبيض والسود، والعكس صحيح. النور الاصطناعي جعلنا نتلون جميعًا حسب درجة الإضاءة، وجعلنا جميعًا بلا لون، لنحمل اللون الذي يفرضه المحيط. نتلون بلون المدينة، وفيها نكون جميعًا طائفة واحدة وعرقًا واحدًا وطبقة واحدة.
المشردون في المدن الكبرى كلهم بلا وجوه. إذا امتلك أحدهم وجهًا فهذا قمين بأن يحوله إلى شخص أليف
الملامح المميزة للقط أو الكلب تعني أننا بتنا نستطيع تخمين ما يشعر به، حين تكون عيناه رانيتين على هذا النحو فهذا يعني أنه يطالب بقليل من الحنان. وحين يكون لسانه متدليًا على هذا النحو فهذا يعني أنه مسرور. وقس على ذلك. بهذه التعابير يصبح الوجه وجهًا. وبغيابها يتحول الوجه إلى قناع.
اقرأ/ي أيضًا: نشيد العولمة
المشردون في المدن الكبرى كلهم بلا وجوه. إذا امتلك أحدهم وجهًا فهذا قمين بأن يحوله إلى شخص أليف. وصفة الأليف في المجتمعات المعاصرة تعني في المقام الأول أنه يقيم في منزل أو شقة، وأنه يتمدد في أوقات ضجره وتعبه على الكنبة، وأن فنجانًا من القهوة منسيًا على الطاولة يجب أن يظهر في صوره بين حين وآخر. ولا بأس ببعض الكتب. فالكتب في هذا الزمن ثقيلة إلى الحد الذي يفرض اقتنائها علينا استقرارًا مديدًا، وليس مجرد إقامة في فندق. أن تكون أليفًا يعني أن ثمة رائحة تتركها في مقبعك، ويستطيع الآخرون تمييزها. المحايدة والمجهولية تفترض منا أن نتشابه جميعًا. أن نرتدي عطرًا يرتدي منه ملايين البشر غيرنا، وأن نرتدي جينزًا ارتدى مثله مليارات البشر. وإذا أردنا التميز والتفرد، فعلينا أن نبقي على صلة وثيقة بين المشترك والعام والمألوف والغريب الذي نقتنيه أو نستعمله أو نرتديه.
لا يمكن أن تقيم الكلاب والقطط في بيوت إذا كان أصحاب البيوت غير قادرين على دفع إيجارها، أو إصلاح أعطالها. اقتناء الحيوانات الأليفة وصحبتها هو امتياز، تحتاج وقتا للعناية بها، وتأمين حاجاتها. وهو الأمر الذي لا يمكن الادعاء معه، أن كل الناس المعاصرين يملكون فائضًا من الوقت يمكّنهم من العناية بكلب. والوقت بالتحديد هو أثمن ما ننفقه على حيواناتنا الأليفة، التي لا تكف عن تطلبها هذا طوال سني حياتها.
في المبدأ إنجاب طفل في العالم المعاصر هو امتياز لا يقوى عليه غير المقتدرين. لكن الطفل يشب عن الطوق ويستطيع تدبر شؤونه بعد زمن. ويمكن التحرر من واجباته ما أن يبلغ أشده. وأيضًا ثمة دول رعاية تصر على تقديم العون للأهل لرعاية أطفالهم. هذا يفترض أن إنجاب الأطفال ورعايتهم أقل كلفة وتبذيرًا من العناية بحيوان أليف.
إنما مع ذلك كله ثمة ما يختلط على عقلي المحدود في هذه المعادلة. إذا كان الاتجاه العام في العالم يفرض على الناس حماية البيئة وكائناتها، ويدعونا بإلحاح إلى المحافظة على البيئة الطبيعية للدب القطبي أو طائر البطريق أو الذئب الرمادي. فما الذي يجعل من عيش الكلاب في بيوتنا أمرًا طبيعيا؟ ومنذ متى بات المحيط الخارجي (الطبيعي) خطرًا على الحيوانات؟ وكيف تكون الطبيعة أما حنون، ونحن نهرب منها إلى قلاعنا المحصنة ونأخذ معنا بعض الحيوانات؟
تقدر الإحصاءات وجود أكثر من 500 مليون كلب أليف في العالم. وثمة صناعات تجميلية وتزينية للحيوانات المنزلية تدر على أصحابها المليارات
تقدر الإحصاءات وجود أكثر من 500 مليون كلب أليف في العالم. وثمة صناعات تجميلية وتزينية للحيوانات المنزلية تدر على أصحابها المليارات. ويندر ألا يثيرنا خبر إنقاذ كلب شارد. لكن المدن الكبرى في العالم المتقدم تعج بالمتشردين. الذين بخلاف الكلاب والقطط، لا يملكون وجوها ولا ملامح، ولا مكان لهم يأوون إليه. والذين يندر أن يهتم أحد بشؤونهم أو ينظر إلى حاجاتهم، وهم على نحو ما يشبهون جورج أورويل ورفاقه الذين وصف أحوالهم في كتابه "متشردًا في باريس ولندن"، حين كانت السلطات الملكية تمنع على المتشردين أن يجلسوا ليرتاحوا أو يناموا في أي مكان من الأمكنة العامة وشوارعها، فكانوا ملزمين بقضاء الليل مشيا بلا وجهة يقصدونها. في مدن اليوم ثمة ما يشبه هذا التدبير، على المتشرد أن ينتقل من رصيف إلى آخر بحسب التدابير. ليس ثمة مكان يمكن أن يركن إليه لوقت طويل. وهو إن ألف مكانًا أو حيًا، يجدر به أن يغادره بعد وقت كي لا يصبح له وجه.
اقرأ/ي أيضًا: المثقف المهجور والقانون الذي يعمل بالساعة
المستقرون في قلاعهم متأكدون بأن التنبؤ بسلوك المتشرد مستحيل. قد يغضب وقد يسرق وقد يقتل وقد يغتصب في أي لحظة، لذا تلزمه السلطات الاجتماعية والقانونية بتجنب الاجتماع ومواربته. مع أن المتشرد يجيد اللغة التي يجيدونها، ويستطيع التحدث بمنطق والتعبير عن حاجاته وأفكاره. إلا أن البشر في ما يبدو لا يريدون علاقات مع بني جنسهم. وها هم يأوون إلى مضاجعهم برفقة كلابهم وقططهم، ويتركون بني جنسهم في العراء والخوف والفاقة.
اقرأ/ي أيضًا: