في ملايين البيوت العربيّة، وعلى مدى عقدين أو أكثر، تردّد صوت الشهيدة شيرين أبو عاقلة، حتى حجزت لها في ذاكرتنا الجمعيّة مكانًا أثيرًا، عامًّا وشديد الخصوصيّة في آن، كأنها عرفتنا جميعًا، وكأن كلًّا منّا عرفها وحده، بما ترتبط لديه ذكراها بصورة دافئة من ماضٍ عبَر، يدفع بها حسرة حاضر يائس.
حجزت شيرين أبو عاقلة في ذاكرتنا الجمعيّة مكانًا أثيرًا، عامًّا وشديد الخصوصيّة في آن
ولكي أكون صادقًا مع شيرين وذكراها، لا بدّ أن أعترف بأني لم أتوفّر على الفرصة اللائقة للحزن اللحظي على فقدها. أفتقد منذ عدّة سنوات هذه القدرة على الحزن العفويّ. أخشى أن يكون الأمر نزوعًا في طبيعتي، لكني أطرد هذه الفكرة المرعبة بالقول إن للأمر علاقة ربما بطبيعة العمل، أو لوسائل التواصل الاجتماعي وأثرها في ضمور حاسّة التعاطف فينا، أو لعلّ للأمر علاقة بكثرة خيباتنا العربيّة في حقبة ما بعد الربيع الأوّل، ودخولنا في دورة اليأس الكسير، بعد أن انقلبنا على أعقابنا، نبحث عن أشكال فرديّة من النجاة، والتطاهر الاستعراضي على تويتر.
كنت في غاية الارتباك صباح الأربعاء، تصلني تنبيهات الزملاء من "الترا فلسطين" حول ما جرى، عن أنباء إصابة شيرين أبو عاقلة إصابة قاتلة في الرأس. في الصور والمقاطع الأولى التي وصلتنا ظهرت الزميلة شذا حنايشة إلى جانب شيرين، وهي مذهولة، في مرمى النيران وأمام مشهد الدم النازف من شيرين، التي ظنّت شذا أنها كانت في حمايتها. ارتبكنا جميعًا، واستقرّ الرأي على عدم الاستعجال في النشر، وانتظار أن تؤكّد الجزيرة النبأ وتنعي شهيدتها. بدا وكأننا جميعًا في تلك اللحظات نفكّر بقلب واحد، لا أمنيّة لنا سوى أن نرجع بالزمن بضع ساعة، وأن نقف هناك، في هدأة الفجر ونسيمه الذي يهبّ على العالم كلّه من جنين، حيث كانت تمسح شيرين وجهها وتشرب قهوتها، قبل أن تتّجه إلى موتها غير المشتهى.
ارتبكت، وأكذب لو قلت أن الخبر وحده هو الذي أربكني. كان عليّ أن أجهّز ابني الصغير وأخرج به إلى المدرسة، وأن أقود بسرعة كي أتمكّن من الوصول إلى مكان قريب هادئ وأتابع العمل. في السيّارة، استمعت إلى الجزيرة عبر الراديو، أصوات الصراخ والعويل بدأت تصل إلى ابني في المقعد الخلفي، خاف وكاد يبكي، أغلقت الراديو، وأخبرته بأن الأمر يتعلّق بفلسطين. هل ماتت؟ قال لي. لا، أجبته بشكل آلي وأنا لا أدري عمّن يتكلّم. قلت له لا، لم يمت أحد، واكتفيت من باب التوضيح بالقول إنها قصة بنتٍ من فلسطين، سرق منها الإسرائيليون أرضها، وكدت أقول حياتها. لكنّي لحظة رأيت الحزن على وجهه، غيّرت الموضوع. لم أرد أن يدخل إلى المدرسة مغمومًا بأخبارنا الكبيرة، وهو بالكاد أتمّ السادسة من عمره. شغّلت أغنية يحبها، وعندها فقط بكيت، ربما على هذه الخيبة المضاعفة.
في الطريق إلى العمل، عدت إلى راديو الجزيرة. سمعت حديث تامر المسحال وهو يبكي شيرين، ويصف لقاءاته القليلة معها، ثم جاء صوت وليد العمري، وبدأ يتحدّث عن تاريخ شيرين الطويل في الشبكة، عن الحبّ الذي كانت تحتفظ به للناس جميعًا، وكيف أنّها، من بين جميع من عرفهم، كانت الأقلّ نزوعًا للشكوى أو الشعور بالاستحقاق، ولو أتت على نفسها. كانت باذخة الكرم بهذا المعنى، فدائيّة حقيقية. هكذا وصفوها.
لكن كيف يمكن حقًا أن نكتب عن الشهيدة بالتزامن مع الخسارة الفادحة بفقدها؟ كيف يمكن، رغم كل هذه التناقضات والارتباكات اللحظية، والخجل من الذات، أن نكتب بصدق عمّن نعرفهم وتُسرق حياتهم هكذا أمام أعيننا، ونحن في صدد التجهّز ليومٍ عاديّ. ثم ما هو ذلك الذي حلّ في شيرين، وجعلها فجأة وكأنها خلاصة الألم الفلسطيني وسيرورته ومعاناته؟ ما طبيعة تلك الروح التي سكنتها وجعلتها تستقطب كل هذا الحبّ الذي تكثّف على ضريحها وتقطّر ورودًا ورحمات ودعوات؟
صوت شيرين أبو عاقلة هو أكثر ما ظلّ عالقًا من ذكراها فينا، كما يليق بمراسلة أولى، وصوتٍ أوّل
لا أملك الكثير من الإجابات. أكذب مجددًا لو قلت أن لصورة شيرين في ذهني حضورًا ذا بال. لكني مثل غيري، مسكون برنّة صوتها التي تذكّرنا بأيّام بدت فيها فلسطين أقرب بفضله. هي عندنا أيقونة، حافظت على قدسيّتها بمهنيّتها الكلاسيكية، وصمودها أمام موجة التحوّل الفاشينستي تحت سطوة الإعلام الجديد. لقد حفظت شيرين لنا توازن الصوت/الصورة، رغم أن صوتَها هو أكثر ما ظلّ عالقًا من ذكراها فينا، كما يليق بمراسلة أولى، وصوتٍ أوّل. هكذا، شيء قريب من أثر الأمومة، والأصوات النقيّة الأولى. ظلّت شيرين كما يليق بها، كلمةً حيّة ألقتها السماء على صفحة هذا العالم.
