محمد.ع، واحد من مئات الشباب الذين تركوا جماعة الإخوان المسلمين في السنوات الأخيرة، والذين يشيرون إلى أنفسهم، وكذلك يعرفهم شباب العمل العام في مصر عادة، بعبارة "الـ (إكس) إخوان". وفي أحد اللقاءات التي ينظمها صالون قرطبة الثقافي بالقاهرة، كنت أتحدث عن مفهوم الوحي في ثقافة المسلمين، وكيف أنه عندما يختزل "الوحي" إلى مجرد كتاب تشريعي ودستوري، يصبح مباشرة مسألة تخص فئًة معينًة من المتخصصين "الفقيه/ المشرع/ القاضي... إلخ"، وتنقطع صلته تمامًا بالمسلم العادي الذي لا علاقة له بمسائل التشريع. وبالتالي يتوقف "الوحي" عن آداء أي دور حقيقي في حياة الناس العادية، والتي لا يمثل التشريع سوى الجزء الأقل منها في أحسن الأحوال.
عندما يختزل "الوحي" إلى مجرد كتاب تشريعي ودستوري، يصبح مباشرة مسألة تخص فئًة معينًة من المتخصصين
حينها لمحت في عين محمد لمعة استطعت أن أقرأها من واقع معرفتي الجيدة به، لقد ترك محمد جماعة الإخوان المسلمين، غالبًا بسبب أمور إدارية وتنظيميه، مثلًا اعتراضه لسنوات على آلية اتخاذ القرار داخل الجماعة، وتهميش رأي الشباب في أولويات الإصلاح، وتعنت بعض القادة... إلخ. لكنه انتبه الآن، وللمرة الأولى، لأن "الخدعة" كانت تسبق المسائل التنظيمية بكثير، وأن الخطأ كان في الشعار الأساسي للمشروع الذي قبله هو سابقًا كمسلمة لم يناقشها: "القرآن دستورنا"، وهي المقولة التي تُعرف الإسلام باعتباره مشروعًا سياسيًا، وبذلك تعرف الوحي كإطار قانوني دستوري كما سبق القول. وعندما خرج هذا الشاب من الجماعة، كان ينتظر ظهور من يجسد نفس المشروع بطريقة أفضل.
- القرآن إذن ليس مجرد "دستور" (هذا ما أظن قد حدثته نفسه في تلك اللحظة)
فسأل: ماذا إذن غير "التشريع" موجود في القرآن؟
فأجبت: القرآن يتحدث عن نفسه بأنه "هدى" و"شفاء لما في الصدور"، بمعنى أنه يستطيع أن يقدم لك المساعدة في تساؤلات كثيرة تخص حياتك الخاصة، علاقتك بنفسك، وبالله، وبالآخرين وبدورك في الحياة، ومعنى الحياة أصلًا، والحكمة من وجودك على هذه الأرض... إلخ، وهي كلها أمور لا دخل للتشريع فيها، وعلى أقصى تقدير لا يمكن أن يمثل "التشريع" من مجمل حياتك أكثر من 20% مثلًا، بينما "الوحي" غائب عن الـ 80% الباقية من حياتك، وهو الجزء الأكبر والأهم. وهذا هو مفهوم الوحي الذي أعتقد. وحتى نهاية الجلسة ظل محمد يستخدم كلمة "الـ 80%" للإشارة إلى دور الوحي الغائب في حياتنا.
***
تنفذ بنا القصة السابقة مباشرة إلى الآلية التي يمارس بها "الإسلام السياسي" فعاليته والكيفية التي يخلق بها جمهوره، فهو ببساطة يقدم افتراضات مبدئية تتعلق بالتعريفات الرئيسية لدور الدين والنصوص المقدسة، تلقي هذه التعريفات بثقل الإسلام في العملية السياسية، وبالتالي توظف طاقة المشاعر الدينية في مسار الحشد والصراع السياسي علي السلطة، مرجحًا كفة الطرف المتكئ على الشرعية الدينية على خصومه. وبهذا الشكل يسحب التدافع السياسي من المنطقة المرتبطة بالواقع، مثل تشخيص المشكلات واقتراح الحلول، إلى منطقة الأحكام الدينية، بحيث لا يصبح هناك طرف "ناجح" وطرف "فاشل" أو "أقل نجاحًا"، ولكن يصبح هناك طرف "مؤمن" وطرف "كافر"، أو على أحسن الأحوال "أقل إيمانًا"، ولا يصبح هناك اختيار سياسي "جيد" أو "سيء"، ولكن يصبح هناك اختيار سياسي يعبر عن "طاعة الله"، واختيار آخر يعبر عن "معصيته"!
لكن هل الإسلام السياسي ظاهرة في الفراغ؟ هل يمكننا توجيه انتقادات من هذا النوع دون النظر إلى السياق الاجتماعي والتاريخي للإسلام السياسي كظاهرة؟
ما هو الإسلام السياسي؟
نعني بهذا المصطلح تحديدًا كل التيارات والجماعات والهيئات، التي تعتمد الإسلام كديانة بأحد نسخه أو ببعض أجزائه مصدرًا للمشروعية السياسية، ومصدرًا لشرعنة استلاب السلطة السياسية أو النزاع عليها. فـ"داعش" إسلام سياسي وإن لم تشارك في الانتخابات، لأنها في النهاية تمارس دورها كـ "دولة" (كما هو واضح من اسمها)، متكئة على فقه الجهاد الإسلامي مصدرًا لشرعيتها.
الإسلام السياسي هو كل تيار يعتمد الإسلام مصدرًا للمشروعية السياسية، ومصدرًا لشرعنة استلاب السلطة أو النزاع عليها
وجماعة الإخوان المسلمين كذلك "إسلام سياسي"، وإن دأبت على المشاركة في عملية سياسية تتفق إجرائيًا مع "ديمقراطية الدولة الحديثة"، لأن جماعة الإخوان أيضًا في نهاية المطاف، ومن حيث الممارسة والخطاب التربوي داخل الجماعة والتعبوي خارجها، تعتبر أن تبنيها لمشروع "الحكم الإسلامي"، هو مصدر مشروعيتها السياسية، وتتعامل مع الإجراءات الديمقراطية بنوع من "التقية"، باعتباره اضطرار لصالح الجماعة، وليس اختيار لصالح المواطن.
وكذلك دولة آل سعود، والدولة الشيعية في إيران إسلام سياسي، وإن كانتا في سدة الحكم بالفعل وبقطع النظر عن الآليات السياسية التي تتبناها كل منهما. فما يجمع هؤلاء جميعًا هو اعتبار الإسلام، بأية نسخة تبنتها كل جماعة منهم، مصدرًا لشرعنة النزاع على السلطة أو البقاء فيها، وليس العقد الاجتماعي القائم على التوافق. فالشرعية لدى كل هؤلاء تستمد من أعلى، "من الله"، وليس من أسفل "من الناس"، وهذا هو مربط الفرس، ومفترق الطرق بين كافة هذه التيارات، وبين كل التيارات الأخرى التي نشأت لاحقا في إطار الدولة الحديثة.
***
تحكي الأسطورة عن طائر جميل بديع الألوان اسمه "العنقاء"، في كل ألف عام تطير العنقاء في موكب سماوي مهيب إلى معبد "رع" بمصر، لتحترق وتصير رمادًا وتموت فيها كل حياة. حتى ليحسب الناس أنها قد انتهت إلى غير رجعة. ثم من الرماد تنهض العنقاء مجددًا، لتحيا ألف عام أخرى، يظن فيها الناس أنها لا تموت أبدًا.
***
لماذا الإسلام السياسي؟
بمعنى ما هي جملة الظروف والأسباب الداعية في المجتمع إلى وجود الإسلام السياسي والمبررة لوجوده، فليس ثمة ظاهرة اجتماعية توجد وتحافظ على وجودها، إلا إذا كان ثمة داعٍ لوجودها وبقائها، وهي باقية ببقاء هذه الظروف والأسباب الداعية إلى وجودها، وذاهبة بذهابها.
نشأ تراث الفقه الإسلامي بالكامل داخل إحداثيات نظام اجتماع سياسي محدد، والمعروف تاريخيًا بنظام الخلافة الإسلامية، والذي يمكن النظر إليه وتعريفه باعتباره "دولة إمبراطورية متعددة العرقيات ممتدة الحدود بامتداد النفوذ العسكري، ويحدد (الدين) فيها هوية المواطن وينظم طبيعة علاقته بالدولة".
كانت دولة الإسلام التاريخية تطبيقًا تلقائيًا لنظام الدولة المعمول به في العالم في القرون الوسطى
وهذا التعريف هو ذاته تعريف الدولة السائد عالميًا في العصور الوسطي. فدولة الإسلام التاريخية لم تبتدع نظامًا خاصًا لها بحيث يمكن اعتباره "مطلبًا دينيًا" لذاته، وإنما كانت دولة الإسلام التاريخية تطبيقًا تلقائيًا لنظام الدولة المعمول به في العالم في القرون الوسطي، بحيث لم تختلف وفق هذا التعريف عن الدولتين الرومانية والفارسية الذين سبقاها في الوجود. فالإمبراطورية الرومانية كانت تعتبر نفسها "دولة الرب"، منذ عهد قسطنطين في القرن الرابع الميلادي، والإمبراطورية الفارسية كذلك تبنت الزرادشتية، والتي تحولت تدريجيًا إلى المجوسية، دينًا رسميًا للدولة، ومصدرًا لشرعيتها ولتنظيم علاقتها بالمواطن. فدولة الخلافة إذن ليست ببدعة في العصور الوسطي إن اعتمدت "الفقه الإسلامي" قانونًا للدولة، ومصدرًا لشرعيتها السياسية. بما يعني أن الإسلام لم يؤسس في ذاته لدولة إمبراطورية دينية، وإن كانت التجربة التاريخية الوحيدة للإسلام في تأسيس الدولة، جاءت على شكل دولة إمبراطورية دينية بحق، فسبب ذلك إنما هو طبيعة الدولة في العالم وقتها، وليس طبيعة الإسلام ذاته.
وبالتالي فإن التراث الإسلامي الفقهي والتشريعي والسياسي بكامله، يستبطن هذا الافتراض القبلي عن طبيعة الدولة ضمنيًا كمسلمة (preset)، حتى وإن لم يتحدث عن تعريفها بشكل مباشر، وهو أمر مفهوم، فلم يكن ثمة شكل آخر للدولة في ذلك الوقت، ولأن الفقهاء والمفكرين المسلمين لم يتنبؤوا بطبيعة الحال بتغير مفهوم الدولة لاحقًا وظهور الدولة القومية المعروفة حاليًا.
ففي القرنين الماضيين تحول مفهوم الدولة في العالم، لتظهر الدولة القومية والتي تقوم على "وحدة الأرض والثقافة والشعب، والتي ينظم فيها عقد اجتماعي هوية المواطن وطبيعة علاقته بالدولة"، وبذلك تحولت الدولة جذريًا، فبعد أن كانت حدودها ممتدة بامتداد الجيش، أصبحت قطعة محددة من الأرض لها حدود سياسية ثابتة، أو تحاول أن تكون ثابتة، وبعد أن كان "الشعب" غير محدد عرقيًا، أصبح مفهوم "الشعب" يستلزم وحدة عرقية معينة، أو يفترض ذلك وإن لم يتحقق بشكل كامل، وبعد أن كان الدين "الإسلامي أو المسيحي أو المجوسي"، هو الدستور الذي يحدد طبيعة علاقة المواطن بالدولة، أصبح العقد الاجتماعي الخاص بالشعب هو الذي يقوم بذلك، وبعد أن كان المشروع الاجتماعي للدولة يستهدف وحدة الدين، أصبح المشروع الاجتماعي للدولة يستهدف وحدة الثقافة.
وبسقوط الخلافة وتفسخ أجزائها إلى دول قومية مبتسرة تم "استنشائها"، أي افتعال نشأتها قسريًا بدون أن يسبقها أي جدلية اجتماعية تؤسس لها، بسبب ظروف الاستعمار المعروفة، أصبح المسلمون وكل ميراثهم التشريعي والسياسي فجأة مغتربين خارج إطار التنظيم الاجتماع -سياسي الذين يعرفوه، دون أي تصور بديل.
بفشل الدولة العربية "الحديثة"، بقي شبح دولة الخلافة يمارس إغواء الشعوب العربية بحل "مقدس" يباركه الرب
بمعنى أن التراث الفقهي والتشريعي بكامله، والذي أصبح في ثقافة المسلم العادي جزءًا من الدين نفسه، أصبح خارج مسلماته المبدئيةـ أي خارج الإحداثيات التي نشأ فيها، أي طبيعة التنظيم الاجتماع -سياسي الإمبراطوري القديم، فأصبح بكامله فاقدًا للمعنى تمامًا. كما لو كان شبحًا عاش بعد موت الجسد الذي احتواه.
وبفشل هذه الدولة "الحديثة" التي نشأت قسرًا في المنطقة لأسباب عديدة، بقي شبح دولة الخلافة التقليدية كوهم يمارس إغواء الشعوب العربية بحل "مقدس" يباركه الرب، ينقذها من إخفاقات حاضر المجتمع والدولة، مدعومًا بتراث متراكم خارج سياقه التاريخي، ومعزز بخطاب منبري أسطوري مزور، يتخذ من إخفاقات الحاضر مبررًا لرسم صورة مثالية للماضي.
هذا "الوهم" هو الذي يعبر عن نفسه من خلال ما نسميه نحن "الإسلام السياسي".
***
هل ينتهي الإسلام السياسي: هل تموت العنقاء؟
البعض يعتبر أن سقوط الإسلام السياسي في أعقاب الربيع العربي وانحسار جماهيريته، يعد نذيرًا على موته، وإعلانًا لنهايته، وأنا أتساءل هنا: هل تغيرت أي من الظروف والدواعي الاجتماعية التي أدت إلى نشأته حتى نقول برحيله؟ لا يمكن أن ينتهي الإسلام السياسي أبدًا ما بقيت الظروف الداعية إلى وجوده فما بقي الشبح، بقيت العنقاء. لا يمكننا أن نعتبر أن انحسار شعبية الإسلام السياسي وانقلاب الجماهير العربية عليه في كثير من الأقطار العربية، ابتداًء بمصر وتونس وليبيا ثم سوريا مؤخرًا، إلا جولة أخرى من جولات احتراق العنقاء، التي ما ستلبث أن تقوم من رمادها مرة أخرى وكأن شيئًا لم يكن.
ما يزال فشل الدولة العربية قائمًا، ما يزال التراث الإسلامي "الشبح" قائمًا كما هو يمارس إغوائه المعتاد، لكن تتغير النبرة، ما بين داع إلى صندوق الانتخاب إلى داع لقطع الرقاب في الميادين العامة. ويتبادل الإسلام السياسي والدولة القمعية الجولات واحدة تلو الأخرى، يفشل أحدهما ثم يفسح المجال للآخر ليفشل مجددًا، وهكذا ندور في دوائر مفرغة من الفشل. ومادام المسلم العادي يتصور تاريخه، تاريخًا من أمجاد دولة الشريعة التي لا تخطئ، سيبقى يلبي نداء داعش في ميادين تطبيق الحدود، أو نداء الإخوان المسلمين في منابر التصويت.
يتبادل الإسلام السياسي والدولة القمعية الجولات واحدة تلو الأخرى، يفشل أحدهما ثم يفسح المجال للآخر ليفشل مجددًا
ومادام المسلم العادي يتصور القرآن كتاب تشريع مطلسم لا يحق له مقاربته إلا بوساطة الفقيه، سيبقى يغزل أوهامه ويضع كل رهاناته على هذا الفقيه الذي "يعلم وأنتم لا تعلمون"، وسيقف في اتصاله بالوحي عند حبر الحروف التي يدندنها ليعد بها كسور الحسنات.
***
متي تنتهي الأسطورة؟
تنتهي قصص الأشباح عادة في أفلام الرعب، بمولود جديد يجسد الحياة والأمل في المستقبل، سلاحًا، يطرد الأشباح إلى غير رجعة، ويعيدها إلى مكانها في الماضي. لا يمكن إذن التخلص من شبح التراث الذي يمشي خارج جسده التاريخي، سوى بإعادة صياغة رؤية جديدة تمامًا لدور الدين في حياة المسلمين، ويشمل ذلك تعريفًا جديدًا للمفاهيم المركزية كالوحي وعلاقتنا به، والإيمان والإسلام والهوية والآخر.
يحتاج هذا التصور الجديد أن يكون قادرًا على استنهاض طاقة الإيمان، وحشدها وتوظيفها باتجاه العلم والعمل والواقع، لتحل ثقافة الفعالية والنجاح والإنجاز، محل ثقافة الفشل التي تحكم الحياة في مجتمعاتنا. الأمل يكمن في محمد.ع الذي تغيرت نظرته إلى الوحي، ليبدأ مع الوحي طريقًا جديدًا، يمارس فيه الوحي دورًا فعالًا حقيقيًا في حياته، ولكن حتى يتحقق ذلك فستبقي العنقاء تجدد نفسها لتنهض من رمادها مرًة أخرى ولو بعد حين.
اقرأ/ي أيضًا:
اليسار كمعكوس للإسلام السياسي