الفكرة لا تموت كاملة ولا تُنسى كاملة أيضًا، طالما وجد لهذه الأفكار عقولًا تنبض وقلوبًا تخفق وأقلامًا تكتب ونفَسًا طويلًا قادرًا على المضي نحو تشييد صرح يليق بقيمة تلك الأفكار، وهذا ما يجعلها باقية بقاء الدنيا لا تني ولا تنحي لواقع ضربات الحياة، وحاملوها هم الأبطال الذين حملوا على سواعدهم لبناتِ تلك الأفكار، حتى وهم يعملون أنهم بذلك يسيرون بخطى ثابتة نحو موتهم الحتمي، في الوقت الذي يعلمون فيه أن أفكارهم تخيف أعدائهم وتبث الرعب في قلوبهم وتجعلهم يخافون من أي شيء، وحتى من اللاشيء طالما أنه يخصهم، وهذا ما يجعل مصير تلك الأفكار أن تصل حتى وإن غادر أصاحبها عنّا.
سيكبر غسان كنفاني الطفل كثيرًا ليصير كهلًا، لأن تلك الأيام لم تكن تريد أطفالًا بل كانت تتطلب أطفالًا في أثواب رجال
أعرف واحدًا منهم سمعته مرة يقول: "إن قضية الموت ليست قضية الميت وحده، إنما قضية الباقين، وإن الموت السلبي للمقهورين والمظلومين إنما هو مجرد فشل وخيبة"، صرت أستمع له وأنا مطرق الرأس، فأحدثت كلماته في رأسي دويًا وطنينًا، كأنه أمسك بعقلي وأخذ يهزه هزًّا عنيفًاً، وبين طنين رأسي من وقع الكلمات، وألم الجسد من وقع الاهتزاز، انتبهت فوجدته أمامي يكتب على جدار بأحد أزقة بيروت "لا تمتْ قبل أن تكون ندًا"، لأنتبه أخيرًا إلى أن هذا الشخص من حيث الاسم غسان، ومن حيث الأصل كنفاني.
إن الكتابة عن فلسطين لا تعد بالشيء اليسير، فكما يقول صاحبنا هذا: كلام الجرائد لا ينفع يا بني، فهم الذين يجلسون فى مقاعد مريحة، وغرف واسعة فيها صور ومدفأة ثم يكتبون عن فلسطين وعن حرب فلسطين، وهم الذين لم يسمعوا في حياتهم طلقة قط، ولو سمعوا لهربوا إلى حيث لا أدري، وهذا هو حال كاتب المقال الآن، لأن الكتابة عن شخصية بحجم غسان كنفاني لا تقل صعوبة عن الكتابة عن فلسطين.
من شواطئ عكا إلى المخيمات
غسان كنفاني من مواليد التاسع من نيسان/إبريل 1936، وقد عاش طفولته فى إحدى أجمل مدن فلسطين، وهي مدينة عكا، الأمر الذي لم يعد جميلًا وإن كان جميلًا في ذاته، كان أبوه يعمل بالمحاماة، وكان رجلًا عصاميًا بنى نفسه بنفسه. التحق غسان بمدرسة "الفرير" الابتدائية، وقضى فيها بضع سنوات قبل أن يفاجأ وتفاجأ أسرته ذات صباح بدخول القوات الصهيوينة إلى مدينته.
وهنا ستحدث نقلة وتحول كبير في حياة غسان كنفاني، فلن يتكمن من رؤية بحر فلسطين مجددًا بمياهه الرائقة الصافية بل سيرى بحورًا من دماء شعبه، سيعرف حياة المخيمات واللجوء بدلًا من البيت الأنيق الذي كان يسكنه، سينام على أرض صلبة خشنة كخشونة الأيام بدلًا من الأسرّة الوثيرة التي كان ينام عليها، سيكبر غسان الطفل كثيرًا ليصير كهلًا لأن تلك الأيام لم تكن تريد أطفالًا بل كانت تتطلب أطفالًا في أثواب رجال، ستتغير هويته من "مواطن فلسطيني" إلى "لاجئ فلسطيني"، ويتحول إلى رقم، حتى وإن رفض ذلك، فلا بد وأن يقبلها رغمًا عنه، لأنه بعد زحف القوات الصهيوينة إلى عكا، داسوا بأحذيتهم الثقيلة على إرادتهم، فلا بد وأن يحيوا الحياة التي تريدها إسرائيل لا التي يريدونها هم.
سينتقل غسان مع أسرته إلى دمشق حيث يستقر هناك مع جموع اللاجئين، لكن نظرًا لحالة والده المتيسرة نوعًا ما سيأخذ لهم بيتًا قديمًا يقيمون فيه، ورغم أنه عاش في دمشق لكنّ قلبه ما زال عالقًا بوطنه، ما زالت أصوات الرصاص تحدث دبيبًا فى أذنه، وما زالت قصص المذابح فى يافا وحيفا وغيرها من مدن فلسطين أمام عينيه كفيلم سينمائي حزين، يحكي قصة شعب بلغت أرضه سن الكهولة مبكرًا جدًا، ورغم أن هذا السيناريو هو المتعارف عليه في اللجوء، لكن غسان كنفاني استغل تلك البقعة الحمراء ليكتب عليها بدمه، ويبث من خلالها النشاط فى قلمه الذي يستمد مداده من دماء الشهداء، فتجلعه لا يتوقف عن الكتابة، طالما بقي غسان وبقيت فلسطين.
فارس فارس.. أبو فايز.. أبو العز
وهو أيضًا الصحافي والقائد والمبدع، كل هذه الأسماء كانت لأديب ثائر واحد وهو غسان كنفاني، والتي كان يوقع بها أدنى موضوعاته فى بداية عمله الصحافي، والذي بدأه بعد أن أنهى دراسته للآداب فى جامعة دمشق، فعمل كمحرر فى جريدة "الحرية"، ليؤسس بعدها مجلة "الهدف"، التي جعلها هدفًا يعرَض من خلالها قضيته ويعرّض بسياسة الاحتلال المغتصب، ويقرع أبواب الحكام العرب، فصار "هدف" غسان الأمنية والجريدة ممتدة من زمان النكبة إلى يومنا هذا، ومن تلك اللحظة صار غسان فارس الفرسان وفائزًا عزيزًا.
كان غسان كنفاني يسير نحو النهاية التراجيدية، وهو على وعي كبير بكنه نهايته
إن غسان أدار ظهره لحياة شخصية، كان من الممكن أن يحيا حياة مغايرة تمامًا من حيث الثراء المادي والشخصي، ولكن غسان من خلال تفاصيل حياته كان يسير نحو النهاية التراجيدية، وهو على وعي كبير بكنه نهايته، ولعل رفضه الحماية الأمنية في الفترة التي سبقت اغتياله أكدت ذلك.
إننا هنا لا نحاول أن نجعل من غسان كنفاني سوبر مان، أو نلبسه ثوب القداسة ونجعل منه شخصية أسطورية، لأننا ببساطة أمام شخصية كانت ترى في كل ما تقدمه من أجل قضيتها شيئًا عاديًا جدًا، حتى وإن بدا ذلك لغيره فوق العادة، أو تصور البعض أنه بذلك يحمل إكليلًا من الشوك يلف به عنقه.
المقاتل الذي لم يحمل سلاحًا
أراد غسان ألا يجلس فى صفوف المتفرجين ليرى أرضه وهي تسرق شبرًا وراء شبر، بل إنه قذف بنفسه في أتون المعركة، كي يعيش اللحظات الحاسمة من تاريخ فلسطين، هذا التاريخ الذي بدأ منذ خروجه من يافا والتزامه حد الصمت عند الخروج، وذاكرته تأخذ لقطات سريعة لتلك اللحظات الأليمة التي قاسى فيها لأول مرة فى حياته لذعة التهجير واللجوء، ليحتفظ بتلك اللقطات فى مكان آمن فى عقله، حتى إذا ما أصبح قادرًا على أن يمسك قلمًا بدأ يشيد للأدب الفلسطيني صرحًا عظيمًا، وأقفًا على قمته وهو يرفع لافتةً مكتوبًا عليها "بالدم نكتب لفلسطين".
يقول غسان: إن قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح، وأنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه".
لم يكن أدب غسان كنفاني مجرد كلمات منثورة على الأوراق، ولم يكن تعويضًا عن غياب السلاح بل كان السلاح نفسه، فكون غسان يجلس على مكتبه ممسكًا بقلمه ينفث دخان سجارته كأنه ينفث حقدًا عالقًا بصدره تجاه كل من خانوا القضية، جلوسه هذا لا يقل قيمةً عن الفدائي الذي يحمل سلاحًا ويقف على الجبهة، كلاهما يقاوم بطريقته، والمقاومة هنا ليست ذلك المعنى الضيق، المحصور في مقاومة المحتل الأجنبي وأذنابه، إنما نقصد المقاومة بمعناها الواسع الغني، إنه أدب يحقن القارئ بمصل المقاومة وإكسير القوة، مقاومة ضد عوامل الضعف والخور والهزيمة واليأس والتراخي مقاومة لا تقبل أنصاف الحلول، تعف عن المكسب الرخيص السهل، ولا ترضى بمكسب مشروط.
مع الأيام استحالت كلمات غسان إلى قنابل موقوتة تسير إلى جانب قنابل الفدائيين، فلا تشوش إحداهما على الأخرى حتى تؤدي كل منهما غرضها، فقنابل غسان تشتت تفكيرهم وتفضح أعمالهم وقنابل الفدائيين تنسف جبهاتهم، والسبب في ذلك أن غسان استطاع أن يجعل من كلماته رصيدًا للمقاومة، بل جعلها تأتي طائعة بين يديه ملتزمة حد الأدب والخضوع فى حضرة الكتابة عن فلسطين.
كان الأدب بالنسبة لغسان كنفاني الوطن الذي سكن فيه عندما نفي من وطنه الأول
كان الأدب بالنسبة لغسان الوطن الذي سكن فيه عندما نفي من وطنه الأول، ففيه سيعيش حياة أكثر أمانًا، وهذا لا يعني الاستغناء الكامل عن وطنه الأم إنما هو وطن قابل للتحول إلى الوطن الأول عندما تتحرر الأرض، ففي وطن غسان ستتحول فلسطين من مجرد قضية تدار من أجلها المفاوضات على الموائد المستديرة، أو يُستجدى بلاجئيها عطف جمعيات حقوق الإنسان، إلى حالة تملك عليك تفكيرك وعقلك وروحك.
عندما تدخل إلى عالم غسان كنفاني ستجد عالمًا ليس لنا بالفعل، عالمًا لا يصلح إلا لغسان وحده، بمجرد أن تدخل إلى هذا العالم ستخوض حربًا شرسة تعلن فيها الثورة على كل شيء من حولك، وستجد نفسك ندًا لكل شيء أيضًا، ستشعر بأن الأحداث تصدمك لشدة زخمها، والأفكار تمسك بتلابيبك وتنهش روحك تستحثك على المقاومة، تتلاعب بأوتارك وأحبالك الصوتية كي تصرخ، تأمرك بأن تدق جدران الخزان وبقوة، حينها ستجد نفسك مدفوعًا إلى أن تخوض تلك المعركة والتي يعد النصر فيها حتميًا، لأنها لا تقبل الخسارة.
في عالمه ستجد تلك الشخصيات والأحداث التي قرأتها في كتبه حيةً أمامك، هناك ستقابل سعيد وزوجته وهما يصعدان سلالم بيتهما القديم في حيفا، ليقابلا ابنهما خلدون وقلوبهما تخفق وتضطرب، هناك ستجلس مع غسان على شواطئ بحر أرضه لتملأ صدرك بهوائه الذي ينعش روحك، وتذهبان سويًا إلى أقرب حديقة وتأكلان من برتقالها الحزين، وتجد عربة تقطع الصحراء يخرج السائق منها ثلاثة رجال وقد لفظوا أنفاسهم الأخيرة لأنهم لم يدقوا جدران الخزان، وسترى رجالًا يحملون البنادق لا تنزعج منهم فهؤلاء هم الفدائيون، ستقابل في طريقك امرأة ريفية تحمل صرة على رأسها تسمى أم سعد، التحق ابنها مؤخرًا بالفدائيين، ستشعر فجأة بأن الخور والضعف بدأ يتسلل رويدًا إلى جسدك، ستلقى بك على سرير يحمل رقم "12"، حينها ستجد غسان يقول: هذا العالم ليس لك.
غسان الذى عاش فى جحيم غادة السمان
"مأساتي ومأساتك أنني أحبك بصورة أكبر من أن تخفيها وأعمق من أن تطمريها، لا تكتبي لي جوابًا لا تكترثي، إنني أعود إليك كما يعود اليتيم إلى ملجأه الوحيد".
عرف العالم غسان كنفاني قويًا صلبًا، عرفوه بأنه شخص لا يعرف الضعف لقلبه طريقًا، لكنهم لم يعرفوه عاشقًا متذللًا، يقف على أعتاب بيت حبيبة يطلب منها أن تفتحه له، وتأبى إلا أن تغلقه فى وجهه، فعاش غسان حياته يعاني عذابين، عذاب قضيته وعذاب حبه الذي اختلط ببارود يافا ورائحة النخيل في دمشق، تحت سماء الأدب.
عرف العالم غسان كنفاني قويًا صلبًا، عرفوه بأنه شخص لا يعرف الضعف لقلبه طريقًا، لكنهم لم يعرفوه عاشقًا متذللًا
يقولون إن أصعب قصص الحب هي تلك القصص التى تكون من طرف واحد، وعلاقة غسان كنفاني بغادة السمان كانت علاقة من هذا النوع، رغم رسائله التي كانت تنضح حبًا، لكن غادة السمان أبت أن تعطف على هذا العاشق الذي التهمه وشغفه حبها، فكانت رسائله لها بمثابة الوقود الذي يزيد نار حبه اشتعالًا، فتركته غادة السمان يحترق ويتعذب، وقد قالوا قديمًا "الحب أوله جد وآخره هزل"، لكن في حالة غسان كنفاني وغادة السمان أصبح أول الحب عذاب وآخره عذاب وشقاء أيضًا.
نسفوه كما لو كان جبهة
كأن غسان وهو يكتب عبارته "بالدم نكتب لفلسطين"، وعبارة "لا تمت قبل أن تكون ندًا"، قد أراد بذلك أن يرسم خطوط نهايته وينظر إليها هازئًا من عبثية تلك الحياة، فما قيمة الكلمات التي تكتب عن فلسطين إن لم ترو بدماء كاتبها، كأنه أراد ألا يكون من نوعيات الكتاب الذىن يجلسون على كراس مريحة، وأمامهم المدفأة كي يكتبوا عن فلسطين وهم لم يسمعوا طلقة قط، أما غسان فلم يسمع طلقًا فقط بل سمع دوي قنبلة موقوتة كانت هي آخر الأصوات التي تلقتها أذنه من الدنيا.
كان هذا فى منطقة الحازمية ببيروت فى الثامن من حزيزان/يوليو عام 1972 وهو بعد لم يكمل السادسة والثلاثين، عندما خرج من بيته ليستقل سيارته الكائنة فى جراج بيته وبرفقته ابنة أخته وأسيرة قلبه لميس، وعندما أدار المحرك، انفجرت السيارة محدثة دويًا مزلزلًا، وفجوة كبيرة في المساحة التي كانت تقف فيها السيارة، كان هذا من قِبل الموساد الإسرائيلي.
مات غسان كنفاني كما مات "أبو عثمان" أحد أبطال قصصه عندما فجر نفسه وسط جنود جيش الاحتلال، فلم يجدوا أشلاءه ليدفنوه، أما أشلاء غسان كنفاني فصارت أوسمة يحمل كل مناضل من أجل فلسطين جزءًا منها على صدره، وتناثرت أيضًا على أشجار الزيتون، وذهب بعض منها إلى بحر عكا تتأرجح على موجه فى مده وجزره.
مات غسان لكن ما زال البرتقال الحزين كما هو على الأشجار لا يجد من يقطفه
مات غسان لكن ما زال البرتقال الحزين كما هو على الأشجار لا يجد من يقطفه، ولا زالت أشجار الزيتون كما هي تنحر واقفة، ولا زالت أم سعد تنتظر من يحمل لها أخبار سعد، وما زال الرجال يحملون البنادق ويقفون فى الشمس، ولا زلنا نبحث عن ما تبقى لنا، ونبحث أيضًا عن قميصنا المسروق، رحل غسان ولا زال قلمة وسجائره على مكتبه تنتظر من يمسك بهما كي يعيد إلى الأذهان حب القضية مرة أخرى، لذا نسفوه كما لو كان جبهة لأنه أراد ألا يحيا إلا ندًا.