هذا وقت الفرنسيين. فرصتهم الوحيدة ليثبتوا أن لهم صوتًا في هذا العالم. واستعادة قيم الثورة المفقودة منذ الاستعمار. ذاك الزمن الذي لطخته الكونيالية بالدم والتسلط ونهب الثروات. زمن عرف الفرنسيون (بمعظمهم)، أنه عيبهم الفادح أمام التاريخ. والتاريخ لا يرحم. إنه ليس فقط، صورة الماضي، بل أيضًا نسخة مائلة لظلال المستقبل. وما يجري في بلدهم منذ هجوم "شارلي إيبدو" ومرورًا بإرهاب باريس البارحة، هو بعض من مرآة ذاك التاريخ وأحد مكونات العنف المسكوت عنه.
الاعتراف بالمشكلة ليس من أهواء الطبقة السياسية الفرنسية. التجاهل أحيانًا هو أسلوب معتمد عنوة
فالاعتراف بالمشكلة ليس من أهواء الطبقة السياسية الفرنسية. التجاهل أحيانًا هو أسلوب معتمد عنوة. وهو سلوك برجوازي، يتوارثه القادمون إلى "النادي" المشتغل في السياسة المحلية والخارجية على حد سواء.
أغلب الظن إنه طريقة مشتركة بينهم للتغلب على الهزائم. عدم الاعتراف بها. التوغل في المضي قدمًا بلا التفات. وتبقى الاستثناءات ضئيلة ولا يمكن تحميلها مسؤولية هذا العماء المتجذر.
اقرأ/ي أيضًا: "بلال".. الحصان الأسود في انتخابات فرنسا المقبلة؟
وتعد زيادة نسب "التوحش" لدى أبناء المجتمع الفرنسي أنفسهم، وتوجههم للانضمام إلى "داعش"، وتنفيذهم عمليات دهس وتفجير وقتل، إحدى أوجه هذا التاريخ ومفاعيل حاضره. بل يذهب بعض الإنتروبولوجيين إلى اعتبار ظاهرة العنف هذه، خيار الانتقام الوحيد المتاح.
فالأبناء ينتقمون من صورتهم الذاتية. الصورة المتخيلة عنهم أيضًا. تلك التي يقصون فيها أحقادهم الصغيرة ونقمتهم على النظام التعليمي والسياسي، والبيروقراطية المتفاقمة. وأيضًا شعورهم بالشروخ الاجتماعية والفقر والتذرر والاستنقاع في دولة تنهكها أرقام البطالة، ويعيش كُثر فيها على المساعدات التضامنية.
هؤلاء لا يقتلون أجسادًا وينثرون أشلاءها في شوارع مزدانة بالأضواء وبطرقات نظيفة أو في صالات عروض متألقة فحسب، إنهم يقتلون صورتهم الحالية. تلك التي تضمر تفككًا صارخًا. من حقيقة مجتمعهم، وانقسامه وانكساره.
فعلى الرغم من الاندماج، وهو حاصل بشكل مبتور، إلا أن التعثر في ردم الهوة بين الفرنسيين أنفسهم يزيد من التساؤلات، حول "مجتمع هشّ"، تنمو فيه خيارات العنف والتفرقة والعنصرية.
لكن هل فعلًا الفرنسي العادي، يفرق بين أبناء وطنه؟ هذا السؤال لا إجابة واضحة فيه. لكنه أحد الأسئلة التي تشغل أوساط النخبة. فالفرنسيون يعرفون قبل غيرهم، أن العنف لا يولد عنفًا فحسب، بل يخلق مسببات "التفجر" الداخلية. ويعيد بناء "مظلوميات"، يحاول النظام السياسي والاجتماعي، التعمية عنه. أي تغليفه بدلًا من حله.
اقرأ/ي أيضًا: 7 من أفلام شباط/فبراير.. ستفضل مشاهدتها في السينما
لا يمكن تجاهل التفكك الحاصل في بنية المجتمع الفرنسي. هذه أول هواجس النخبة التي تدرك مخاطر الإقدام نحو خيار اليمين. وربما هذه إحدى علل الواقع السياسي الفرنسي. أن النخبة في مكان والعامة في مكان آخر. والسياسيون يبحثون في مكان ما عن فرنسا التي في "خيالهم". تلك التي نقرأ عنها في عصر الأنوار، أو القائمة في استعادة إمبراطورية الجدة "ماري أنطوانيت".
لا يمكن تجاهل التفكك الحاصل في بنية المجتمع الفرنسي. هذه أول هواجس النخبة التي تدرك مخاطر الإقدام نحو خيار اليمين
فاليسار كما اليمين، على حد سواء، يعيش أهله فصامًا، تحذر أصوات قليلة من خطورته. فنصل السكين على الرقبة. ولا أحد يمكنه أن يطمئن المواطن الفرنسي من هواجسه. والإعلام، يتعامل مع الأمر بسطحية. تخدم الصورة المتوارثة عن "بلد حالم".
في المحصلة، لا رغبة واضحة لدى الفرنسيين في إقحام أنفسهم في "ترامبية" أمريكا. لكن ماذا لو فعلوها؟ وهل فعلًا الطبقة السياسية على وعي تام بالمرحلة؟ هل لديهم إدراك كما النخبة التي يعلو صوتها في الصحف والمجلات والكتب أومواقع الـ"سوشيال ميديا"، عن احتمال "الفاشية"؟
الأيام آتية وهذا حوار مفتوح للفرنسيين، من كل أصول العالم، الذين يتقاسمون بقعة مميزة من القارة العجوز، أن يفتحوا عقولهم وقلوبهم لدقة الخيار الرئاسي في الربيع القادم.
اقرأ/ي أيضًا:
بودريار: المثقف لا مستقبل له
ميركل التي تحارب لوحدها