أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما عن عزمه تقديم ما يلزم من الدعم في الترويج للقاح الجديد المقاوم لعدوى فيروس كورونا، واستعداده لتلقي اللقاح علنًا أمام الكاميرات ووسائل الإعلام لإقناع الأمريكيين بثقته بالمؤسسات الصحية الأمريكية. وأوضح أوباما أنّه يتفّهم حالة "الريبة من اللقاح" بين بعض الأمريكيين، ولاسيما أولئك من ذوي الأصول الأفريقية. وكان ممّا أشار إليه في مقابلته مع إذاعة كندية أن ثمّة ما يفسّر هذه التخوفات بين الأمريكيين السود، تعود إلى تجربة بحثية عرفت باسم "دراسة توسكيغي"، والتي تُرك فيها المئات من الأمريكيين السود بلا علاج من مرض "الزهري" لدواعٍ بحثية تسعى إلى مراقبة التطورات الطبيعية للمرض بين تلك الفئة، ومنعهم من تلقي العلاج على الرغم من توفّره. في هذه المقالة المترجمة بتصرف عن موقع جامعة ماكغيل الكندية نستعرض تفاصيل تلك التجربة المريعة وسياقها النفسي والاجتماعي في تلك الفترة المظلمة من التاريخ الأمريكي المعاصر.
في عام 1865، ألغى التعديل الثالث عشر في دستور الولايات المتحدة الأمريكية كافة أشكال العبودية والرقّ المفروضة على الأمريكيين السود، إلا أن واقع الحال في مطلع القرن العشرين في أمريكا ظل قائمًا على تصورات مغرقة بالعنصرية. فسحر الداروينية الاجتماعية كان في أوج تأثيره، وتفشّى ما عرف وقتها باسم "العنصرية العلميّة"، وهي ممارسات تتكئ على العلوم لترسيخ تحيّزات عنصرية. فقد كان الرجل الأبيض عمومًا يؤمن بتفوّقه على السود، إيمانًا بدا لا غضاضة فيه وفق السائد في ميدان العلوم والطب، وقد اعتمد في تعامله معه على هذه الذهنية العنصرية الراسخة.
ساد بين الأمريكيين البيض فكرة ترى أن السود صنف آخر من البشر مختلف جوهريًا عنهم، ورأوا أن الأطفال مختلطي العرق أكثر عرضة للإصابة بالعلل الصحية
بل إن استرقاق السود قد وجد تبريرات له في فترة من الفترات قبل إلغائه، بناء على فكرة العنصرية العلميّة، إذ يرى المشتغلون بها أن البشر ذوي الأصول الإفريقية ليسوا ملائمين إلا ليكونوا عبيدًا، نظرًا لما يتمتعون به من قوة في البدن وبساطة، بحسبهم، في القدرات العقلية، حتى أنّهم ادعوا أن للعبيد أنظمة عصبية غير متطوّرة، ما يجعل إحساسهم بالألم مختلفًا عن البيض. كما شاع وقتها تصوّر يرى في انخفاض معدّلات الاضطرابات العقلية بين العبيد السود في ولايات الجنوب مقارنة بأقرانهم الأحرار في ولايات الشمال، دليلًا على أن العبودية أكثر ملائمة لطبيعة الإنسان الأسود. أما أولئك العبيد الذين ينجحون في التخلص من نير العبودية، فاتهموا بأنهم يعانون من اضطراب عقلي آخر، أطلقوا عليه اسم "هوس الهروب"، ليؤكدوا أنهم بذلك يخالفون طبيعتهم التي يرون أنهم مجبولون عليها.
ومن المعلوم أن الجدل قد كان على أشدّه في الولايات المتحدة الأمريكية إبان الحرب الأهلية وفي الفترة التي تلتها، إذ اعتبر فريق من الأمريكيين أن السود صنف آخر من البشر مختلف جوهريًا عن الأمريكيين البيض، وساد اعتقاد بينهم بأن الأطفال مختلطي العرق أكثر عرضة للإصابة بالعلل الصحية. بل إن كثيرًا من أطباء ذلك الزمان قد قدموا شهادات تفيد بقناعتهم بأن تحرير العبيد قد ألحق بهم تدهورًا في صحتهم الجسدية والذهنية والأخلاقية. وراح آخرون أبعد من ذلك وافترضوا بأن الانقراض القريب سيكون مصير الأمريكيين السود، وأرجعوا ذلك إلى أن تكوينهم الفسيولوجي لا يحتمل الطبيعة الباردة للبلاد الأمريكية، واقترحوا أن تتم إعادتهم إلى موطنهم الأصلي في القارة الأفريقية.
وقد وصلت هذه الأفكار العلمية الزائفة مواصل خطيرة من الخبل في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في أوساط المجتمع العلمي والطبي في الولايات المتحدة، وصل إلى القول بأن السود، رغم تخلفهم الذهني، يمتازون بقدرات جنسية "فوق-عادية"، وأن لديهم اشتهاء شاذًا للمرأة البيضاء، وأن الأمريكي الأسود كائن منحرف الأخلاق بفطرته، وشهواني على نحو لا يصلح معه الضبط.
اقرأ/ي أيضًا: هندسة الطبيعة البشرية.. تاريخ وتلاعب
هذا السياق وهذه التصورات المتعلقة بالعرق والجنسانية والصحة مهمّة لمعرفة الأرضية "العلمية" المختلّة التي انطلق منها الباحثون في دراسة تسكيغي، وقناعتهم المبنية على هذا الفهم العلمي المغلوط بأن السود قد كانوا معرضين بشكل شديد للأمراض المنقولة جنسيًا، ومن بينها الزهري، ما جعلهم ينسبون معدلات الولادة المنخفضة وارتفاع معدلات الإجهاض في مجتمعاتهم إلى هذه الأمراض الجنسية.
وقد كانوا كذلك على قناعة بأنه لا يمكن إقناع السود بالحصول على علاج لمرض الزهري، أيًا كان مستوى تعليمهم وأوضاعهم الاجتماعية أو الاقتصادية وعلى تنوع ظروفهم الشخصية، وقد كان هذا بالفعل أحد المسوغات التي اعتمدت عليها خدمة الصحة العامة الأمريكية (USPHS) وأغرتهم بإجراء تلك التجربة، باعتبار أنها "دراسة في الطبيعة البكر"، وليست تجربة بالمعنى المتعارف عليه، أي أنها لا تهدف إلا لملاحظة التطور الطبيعي لمرض الزهري في مجتمع من البشر غير الآبهين بالعلاج.
جرت التجربة في مقاطعة ماكون في ولاية ألاباما التي قدّرت نسبة الإصابة بالزهري فيها بحوالي 35% من قاطنيها، وقد كان ذلك عام 1932. تم التواصل مع المجموعة الأولى من المرضى من الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و60 عامًا، وتم إيهامهم بأنهم سيتلقون علاجًا طبيًا بالمجّان لمعالجة "الدم الفاسد"، وهو مصطلح شعبي يشير لعدّة أمراض وعلل، مثل فقر الدم والإعياء وغيرها، إضافة إلى الزهري، كما قيل لهم إن العلاج سيستغرق ستة أشهر فقط. وافق الناس على ذلك، وخضعوا لتشخيصات طبية، وصور أشعة، وخزعات ظهرية (spinal tap)، أما عند وفاة أحدهم، فكان يخضع للتشريح الطبي الخاص بأغراض الدراسة.
واجهت الباحثين مشكلة تتعلق بتدني أعداد المشاركين في الدراسة، إذ ظنّ كثيرون من ساكني تلك المقاطعة أن الفحوصات الطبية تتعلق بعمليات تجنيد للخدمة العسكرية، ولمواجهة هذه المخاوف بدأ الأطباء بإجراء الفحوصات على النساء والأطفال، وكانوا يفصلون الرجال الذين يعانون من الزهري من الفئة العمرية موضوع الدراسة، كي لا يحصلوا على العلاج مثل الآخرين.
وفي العام 1933 قرر الباحثون إطالة المدى الزمني للدراسة، وانخرط أكثر من مئتي مشارك آخرين في الدراسة ممن لا يعانون من الزهري، وذلك فقط لغرض تحويلهم إلى مجموعة المصابين بالمرض في حال أصيبوا به لاحقًا. ثم عمدوا إلى تقديم علاجات وهمية للمرضى من المراهم أو الكبسولات التي تشتمل على جرعات ضئيلة للغاية من النيوسالفرسان أو الزئبق، وذلك كمحاولة إضافية لإقناع المرضى بأنهم يخضعون فعلًا للعلاج.
لكن حين طالت المسألة، ملّ المرضى وبدأوا بالتخلف عن مواعيد المتابعة السريرية، فما كان من المشرفين على الدراسة في خدمة الصحة العامة الأمريكية إلا أن استعانوا بممرضة تدعى يونس ريفرز (Eunice Rivers)، وذلك لتحفيزهم على الالتزام بمواعيدهم مع الأطباء، وتزويدهم بوجبات الطعام الساخنة والأدوية المقررة، إضافة إلى مساعدتهم للوصول إلى بعض الخدمات الأساسية في تلك الفترة الحرجة التي عانى فيها الاقتصاد الأمريكي جراء الكساد الكبير. ولضمان إجراء عمليات التشريح على جثث من يموت من المرضى، تمّ التكفّل بنفقات الدفن الخاصّة بكل مريض من المشاركين في الدراسة.
وقد حرص الباحثون في هذه الدراسة في العديد من مراحلها على التأكّد من عدم حصول المرضى المشاركين على أي علاج خاص بالزهري. ففي عام 1934، تم تزويد الأطباء في مقاطعة ماكون بقوائم تشتمل على أسماء المرضى المشاركين في الدراسة، وطلب منهم عدم تقديم أي علاج لهم يتعلق بمرض الزهري، وهو ما تكرر عام 1940، حين طلبوا الأمر ذاته من مديرية الصحة في ولاية ألاباما، وفي عام 1941، طلب عدد من المشاركين في الدراسة للالتحاق بالجيش، وحين تبيّن في فحص الخدمة العسكرية أنهم مصابون بالزهري، طلب الباحثون من المسؤولين في الشعبة العسكرية استثناءهم من التجنيد، بدل أن يتم تزويدهم بالعلاج اللازم.
حرص الباحثون في هذه الدراسة في العديد من مراحلها على التأكّد من عدم حصول المرضى المشاركين على أي علاج خاص بالزهري
هنا بدأ يتكشّف الوجه الحقيقي لدراسة توسكيغي. فبدل الاكتفاء بملاحظة وتوثيق التطور الطبيعي لمرض الزهري في مجتمع الدراسة كما كانت الخطة، ظلّ الأطباء يتدخلون بشكل فظ ومريب: ففي البداية كذبوا على المرضى حين أخبروهم بأنّهم سيخضعون للعلاج، ثم منعوهم فوق ذلك من تلقي أي علاج كان يمكن أن ينقذ حياة العديدين منهم، ما يعني أن التصور الأساس الذي قامت عليه الدراسة من الأصل- أي أن سكان هذه المقاطعة من السود لا يأبهون بعلاج الزهري ما يجعلهم مجتمع دراسة مناسبًا لملاحظة التطور الطبيعي للمرض- لم يكن سوى أساس متوهّم بهدف تسويغ هذه الدراسة غير الأخلاقية.
تم إقرار قانون هندرسون عام 1943، وهو قانون يكفل مجانية الفحص والعلاج من الأمراض الجنسية للأمريكيين، وبحلول العام 1947، صار البنسلين هو العلاج المعتمد من مرض الزهري، ما دفع خدمة الصحة العامة الأمريكية إلى افتتاح العديد من مراكز العلاج العاجل التي تستهدف علاج الزهري بالبنسلين. وبالرغم من هذه التطورات، استمرّ حرمان 399 رجلًا من الحصول على العلاج.
تغيّر الوضع قليلًا عام 1952، وتمكن 30 بالمئة من المشاركين في الدراسة من الوصول إلى العلاج بالبنسلين، بالرغم من المحاولات الحثيثة من قبل المشرفين على الدراسة للحيلولة دون ذلك. واستمرت ادعاءات خدمة الصحة العامة الأمريكية التي تقول إن المشاركين في الدراسة لن يسعوا للحصول على البنسلين كما أنهم لن يلتزموا بالعلاجات المقررة لهم وفق خطة الدراسة، وادّعوا أنّ هؤلاء الرجال، وجميعهم من السود، لا يبالون بالألم ولا يتصوّر منهم أن يفكروا بزيارة الطبيب. لكن الواقع هو أن هؤلاء الرجال لم يحجموا عن السعي وراء علاج إلا لأنهم كانوا قد ضحية تضليل، إذ ظنوا أنهم منخرطون في برنامج علاجي بالفعل، وأنه لا داعي للحصول على علاج آخر لنفس المرض.
ثم تغيرت أساليب الباحثين القائمين على الدراسة مع الزمن. ففي العام 1965، جادلوا بأنه قد فات الأوان على علاج الزهري لدى المشاركين بالدراسة، وذلك لأن درجة المرض لديهم قد تطوّرات إلى حدّ لا يجدي معه العلاج حتى بالبنسلين، على الرغم من أن الأطباء في ذلك الحين أوصوا بعلاج الزهري بالبنسلين في أي مرحلة من مراحل المرض، وأن ذلك كفيل بوقف تفاقم المرض.
أصر الباحثون على مواصلة دراستهم الطولية رغم ما فيها من تضليل وإهدار لقيمة حياة المشاركين فيها، ضاربين بعرض الحائط كل المبادئ الأخلاقية الخاصة بضبط التجارب على البشر، مثل كود نورمبيرغ الذي يعود للعام 1947، وإعلان هلسنكي الصادر عن منظمة الصحة العالمية عام 1964، والذي يهدف لتنظيم التجارب الطبية على البشر. لكن تجاهل القائمون على دراسة توسكيغي كل ذلك، واستمرّت الدراسة حتى العام 1969.
أما الفضيحة فلم يكتب لها أن تجلجل في الإعلام والمجتمع الأمريكيين إلا عام 1972، حين أقدم رجل يدعى بيتر بكستون على تسريب معلومات سريّة تتعلق بالدراسة لصحيفة نيويورك تايمز، ونشرت الصحيفة ذلك على صفحتها الأولى في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1972، معلنة أن الدراسة قد توقفت بشكل نهائي. النتيجة هي أن 74 رجلًا فقط ممن شاركوا في الدراسة ظلوا على قيد الحياة حتى ذلك العام، أما من توفوا بسبب الزهري فكانوا 128 شخصًا، وقد انتقلت العدوى إلى 40 امرأة هنّ زوجات لرجال شاركوا في الدراسة، إضافة إلى 19 طفلًا عانوا من الزهري الخلقي، أي أنهم ولدوا لأم مصابة بالزهري.
نجم عن نشر الوثائق موجة عارمة من الغضب في المجتمع الأمريكي، وأطلقت الجمعية الوطنية لتمكين الملوّنين حملة قانونية ضدّ خدمة الصحة العامة الأمريكية، وحكم القضاء الأمريكي بعد سنتين بتعويضات بلغت 10 ملايين دولار، إضافة إلى التكفل بنفقات العلاج لكافة من نجوا من الموت بعد انتهاء الدراسة إضافة إلى كافة أفراد أسرهم، وقد توفّي آخر رجل ممن انخرطوا في الدراسة عام 2009.
وقد ترتّب على الفضيحة تبعات أخرى، حتى دفعت الكونغرس الأمريكي إلى إقرار قانون الأبحاث الوطني عام 1974، كما تم إنشاء وحدة خاصة لضبط التجارب على البشر داخل خدمة الصحة العامة الأمريكية، وصار لزامًا في كافة الدراسات التي تستعين بالبشر الحصول على إقرار خطي من المشاركين بالدراسة، إضافة إلى خلق قنوات إضافية للإشراف والرقابة من مجالس رقابية خاصة داخل المؤسسات الأكاديمية والمستشفيات.
تذكّرنا هذه الفضيحة بجرائم النازيين وتجاربهم الطبية على البشر من الأسرى والسجناء، وهي دليل على أن الولايات المتحدة قد استغلت فئة من سكانها واستخدمتهم كفئران تجارب
تذكّرنا هذه الفضيحة بجرائم النازيين وتجاربهم الطبية على البشر من الأسرى والسجناء، وهي دليل على أن الولايات المتحدة قد استغلت فئة من سكانها واستخدمتهم كفئران تجارب، وحتى يومنا هذا، لم تجر مقاضاة أي شخص ممن كان لهم دور في تدمير حياة 399 أمريكيًا أسود عانوا من داء الزهري وفظائعه على صحتهم ومعاشهم على مدى 40 عامًا.
اقرأ/ي أيضًا:
هندسة الطبيعة البشرية.. تاريخ وتلاعب
ضد الأنوار.. الأصول الفكرية للشرور النازية