بين فلسطينيات تواصلت معهن خلال عملي. ثمة خليلية تعيش في رام الله، تكتب شعرًا رقيقًا في صفحتها في فيسبوك، وتساجل ضد التحرش، وتدافع عن حقوق النساء. سيرة هذه الخليلية تشبه سير كثيرات غيرها. والأرجح أن إصرارها على إسماع صوتها، في الحب والسياسة والاجتماع، في مجتمع تقليدي يسجل لصالحها، بوصفه علامة لا تدحض على شجاعتها وجلدها على المواجهة مع قيم موروثة باتت مقيِّدة.
الاجتماع الفلسطيني هو اجتماع كفاف. ففي غياب الدولة الحامية لمواطنيها والمدافعة عن حقوقهم، تصبح العائلة هي الحضن الذي يحمي المنتمين إليها
في حديثي معها، دافعت طويلًا عن سيرتها وأفكارها، وأبدت حماستها في استنساخ تجربتها وتجارب أخريات غيرها وتمثلها من قبل نساء يعانين من الاضطهاد الاجتماعي. لكنها استدركت، أن هذه التجربة غير قابلة للتعميم. ذلك أن الاجتماع الفلسطيني هو اجتماع كفاف، إذا صحت التسمية. فالفلسطينيون لا يعيشون في دولة كمواطنين، وهذا الأمر مركزي وحاسم في أثره المضني على تشكيل اجتماعهم على النحو الذي يتشكل عليه. ففي غياب الدولة الحامية لمواطنيها والمدافعة عن حقوقهم، تصبح العائلة هي الحضن الذي يحمي المنتمين إليها. والقيم العائلية تفترض وتشترط افتراضات واشتراطات تختلف من حيث بنيتها عن الاشتراطات التي تشترطها الدولة على مواطنيها. في الكنف العائلي ثمة ترتيب للمهام. وهو ترتيب يعيد إعلاء قيمة المواجهة مع الآخر والمحتل على حد سواء، على قيم التسامح واللين الذي تجيد النساء التعامل معه. ما يعني أن الكنف العائلي يشترط تعيين حراس وجنود للدفاع عن حدوده، في مواجهة الأكناف العائلية الأخرى وفي مواجهة سلطة الاحتلال على حد سواء. ومن شأن هذا الاشتراط أن يضيّق المساحة التي تشغلها النساء ويحصرها في المنزل والحديقة وبعض الشؤون الطارئة خارجهما. ويكلف الرجل بكل المهمات الخارجية، والتي تبدو في جوهرها مهمات قتالية بحت.
إلى هنا، تبدو وجوه هذه المسألة كثيرة الشبه بوجوه مسائل أخرى تواجهها الاجتماعات العائلية والأهلية في أكثر من بلد ودولة في العالم العربي وخارجه. لكن ما يجعل الاجتماع الفلسطيني أكثر تعمقًا في معانيه يتعلق بالعلاقة مع الاحتلال. حيث إن الاحتلال لا يتوقف عن سعيه لجعل حياة الفلسطينيين جحيمًا، إذا كنا نفترض أن الجحيم يُعرّف بوصفه المؤسسة التي تسعى لجعل إنجاز كل شأن من الشؤون اليومية مستحيلًا: يفصل الزوجة المتعبة بعد ولادة متعسرة عن طفلتها في المستشفى، ويعيدها إلى البيت، ويضطر والدها إلى أن يعبئ حليب ثديها في أوعية حافظة للحرارة، منتظرًا على الحواجز الأمنية التي تقطع أوصال المناطق، إلى أن يُسمح له بإيصال حليب الأم إلى فم الرضيعة. وهذا مثال من أمثلة لا تحصى.
تقول الخليلية هذه، إن حياة الفلسطينيين جميعًا في واقع الأمر تقع داخل هذا الجحيم، ولا تخرج منه إلا افتراضًا أو تخيلًا. فلا قصائد الحب تشبه القصائد التي تكتب في أمكنة أخرى، ولا مسألة المساواة بين الجنسين تواجه المعوقات نفسها التي تواجهها في بلاد أخرى، ولا الحياة اليومية الفلسطينية تشبه في مصاعبها الحياة اليومية في بلاد أخرى. والحال، يستعين الفلسطينيون والفلسطينيات على هذا الإغلاق التام بالحب.
حياة الفلسطينيين جميعًا في واقع الأمر تقع داخل هذا الجحيم، ولا تخرج منه إلا افتراضًا أو تخيلًا. فلا قصائد الحب تشبه القصائد التي تكتب في أمكنة أخرى، ولا مسألة المساواة بين الجنسين تواجه المعوقات نفسها التي تواجهها في بلاد أخرى
أي حب؟ حب الأخت لأخيها الذكر وتدليله، وحب الأم لابنها وزوجها وتدليلهما. ذلك أن الأم والأخت، في كل وقت، تعرفان أن حياة الفلسطيني في الخارج أضيق من حياتهن في دواخل البيوت، وأن مواجهة اليأس ماثلة في كل لحظة، فكل خروج إلى العمل يمكن ألا تعقبه عودة إلى البيت، وكل شأن يريد الفلسطيني أن ينجزه قد يدفعه إلى حافة الانتحار ملتحمًا بمحتله.
وبالتالي، ليس ثمة اطمئنان لغد الذكور في هذه البقعة من الأرض. لذلك لا تجد النساء مفرًا من تدليلهم، عل الدلال الذي يغمرن رجالهن به يجعل لحظة يأسهم الانتحارية أبعد. في الأثناء، وحيث إن الرجال بلا أفق يعينهم على إكمال عيشهم، تقع مهمة إبقاء هذا الاجتماع حيًّا وولاّدًا على عاتق النساء، اللواتي ينجبن ذكورًا وإناثًا بعضهم منذور لليأس وبعضهن الآخر منذور لصناعة الأمل.