ماهي لحظة معرفتنا/اكتشافنا للقضية الفلسطينية؟ أو بالأحرى، كيف بزغ الوعي بالقضية الأم بما هو حدث ناشئ بغض النظر عن تشكل الوعي بما هو حدث مستمرّ؟ لا غرو أن الإجابة ليست واحدة، فهي متباينة بحسب ظروف نشأة الفرد والأحداث المُعاشة في حياته، ولكن ربما ما قد يجمع بين كل الإجابات، التي نعرفها أو الأخرى التي نتوقعها، هو وجود لحظة شخصية فارقة، حكاية أو صورة أو مشهد ما، أثرت في الوجدان ومثلت نقطة بداية لاهتمام فالتزام، لتتحوّل تلك اللحظة، وبطول الزمن، عنصرًا قارًا في الوعي بما هي لحظة رومانسية محفّزة على الدوام.
الحالة الرومانسية الناشئة تجاه القدس وفلسطين تمثل الوتد الحامل للالتزام، فليس أي التزام أصلًا إلا ترجمة لشعور وجداني
مشاهد الانتفاضة الثانية انتفاضة الأقصى التي كنا نشاهدها باستمرار على التلفزيون، وصور قبة الصخرة التي نراها كأنها وعد إلهي محفوظ، وبعض من حديث مظلمة التصق ضمير "نحن" في تقديمها، حفرت جميعها في وجدان طفل، وازداد الحفر حينما علمت أن جدي رحمه الله، والذي كان جنديًا في الجيش التونسي، عمل بعد تقاعده سائقًا لفائدة قيادات في منظمة التحرير الفلسطيني زمن إقامتها بتونس في الثمانينيات، وقد كان شديد الحرص على متابعة الأخبار القادمة من الأراضي المحتلة، وكنت أعاين ذلك الحرص حتى كنا نتبادل آخر الأخبار.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا بقي من خرافة يوم القدس الإيراني؟
تحوّلت فلسطين بذلك، بصور القدس القديمة قبل أن أكتشف قراها المقاتلة وبعلمها قبل أن أعرف "فتحًا" و"حماسًا" و"جهادًا"، إلى قضية حميمية متوارثة فيحلّ معنى الأمانة لازمًا في ثناياها، وذلك قبل الغوص في التفصيل ونبش التاريخ واستعادة الأحداث. هذه الحالة الرومانسية الناشئة تمثل الوتد الحامل للالتزام، فليس أي التزام أصلًا إلا ترجمة لشعور وجداني.
يبخس البعض، في المقابل، أي هكذا استعادة، ويسعى لإسقاط الانتقادات الموجّهة مثلًا إلى التيار الرومانسي في الفكر القومي العربي بغاية عنوانها التنقية من شوائب النكوص والعقلنة، وهو إسقاط يؤدي، بغض النظر عن نوايا مدّعيه، إلى شفط الحمولة الوجدانية والرابطة العاطفية، بما تعنيه من حديث ذاكرة وتخيّل وأحلام. هذا الشفط يهمل الجذور التي نحتاج دائًما إلى تغذيتها لحمل القضية عبر الأجيال بما هي قضية أجداد وأمانة موروثة، وللتأكيد أنها قضية أخلاق وإنسان وشعب قبل أن تكون قضية بناء دولة وتسوية وفق القانون الدولي.
هي الثوابت، نعم. لا يمكن أن نحفظ هذا المكوّن المؤسس، في نظرنا، لأي تسوية دون الحاجة إلى تثبيته، فما كان ثابتًا يجب أن يظل ثابتًا على الدوام، وهذه المحافظة يقتضي إيلاءها أهمية قصوى من أصحاب القضية الذي يخطئون إن اعتبروا أنهم ليسوا بحاجة للعناية بحفظ الذاكرة لحساب ما يُرى أكثر راهنية.
فلسطين قضية أخلاق وإنسان وشعب قبل أن تكون قضية بناء دولة وتسوية وفق القانون الدولي
وباتت هذه العناية أكثر تأكيدًا وحاجة حيوية اليوم في ظل الهجمة التي يقودها المحور الصهيوني في المنطقة، بمكوّنه العربي السعودي الإماراتي تحديدًا، الذي يستثمر، في إطار تبرير تآمره على القضية، في نسف الذاكرة وتشويهها بما يعنيه من قلب للحقائق وتزييف للتاريخ وتشويش على الوجدان. إن ادعاء أن الفلسطينيين باعوا أرضهم، والتي طالما رددها الساداتيون، نسبة للسادات، لتبرير بيعه للقضية في مزرعة كامب ديفيد، كانت مثلًا البداية لمسلسل ضرب القضية في عمقها الوجداني قبل التشكيك في شرعيتها. فيما يمثل اليوم إنتاج "أم هارون" وغيره من الإنتاجات الدرامية المموّلة سعوديًا وإماراتيًا فصلًا جديدًا من مسلسل عنوانه الرئيسي: اغتيال القضية الفلسطينية في الوجدان العربي ليس فقط بتصويرها قضية الفلسطينيين لوحدهم فقط أي ليست قضيتنا، بل اغتيالها بالخصوص بما هي قضية عادلة. هي مرحلة خطيرة في الدعاية الصهيونية بأدوات عربية متصهينة لاستهداف الجمهور العربي.
اقرأ/ي أيضًا: نحو تصور ديمقراطي في رفض التطبيع
إن المفاتيح والمعاول المتوارثة عن الأجداد المهجّرين من قراهم يجب أن توجد في بيت كل صاحب للقضية، ليس بذاتها على الجدران بل بحملها في قلوبنا كعلامة أمانة. ونحن بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى لإعادة إنتاج المعنى الفلسطيني، أي البحث عن تصورات متجددة لنمذجة فلسطين الأرض والقضية بعيدًا عن خطاب المظلومية.
نحن بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى لإعادة إنتاج المعنى الفلسطيني، أي البحث عن تصورات متجددة لنمذجة فلسطين الأرض والقضية بعيدًا عن خطاب المظلومية
ولا يجب أن نتردد في القول إجمالًا إن الدعاية الصهيونية التي تجري على قدم وساق لاستهداف القضية وضرب ثوابتها بكل أدوات الدعاية، من ذباب إلكتروني ودراما، تستوجب في المقابل دعاية دفاعية داخل المجال العربي نفسه. ربما قد تُرى خطوة للوراء، ويردّ الآخر بعدم الحاجة، وبأننا لسنا بحاجة لفتح باب مفتوح، ولكن حفظ الذاكرة والتحفيز الروحي والشحذ الوجداني يجب ألا يخفى في سلم أولويات أنصار القضية.
ولا يُنكر اليوم مثلًا، على سبيل الاستدلال، الشحذ الذي يحفر فيه رجب طيب أردوغان خدمة لمشروعه السياسي عبر الدراما التاريخية العثمانية بما يحرّك الوجدان الكامن في نفوس الأتراك. ونحن بدورنا بحاجة لصياغة سياسة ثقافية، الدعاية أحد جوانبها، تعاضد الكفاح السياسي والعسكري قوامها عدم النسيان وحفظ الذاكرة بما لا تعنيه تأريخًا فقط ولكن أيضًا بما تعنيه من وجدان وتخليد وقيم وعبر.
إن أكبر تهديد لقضيتنا، على المدى البعيد، هو اغتيال فلسطين بوصفها حالة رومانسية بالنسبة للإنسان العربي وتحويلها إلى حالة واقعية أي تُطرح بما أنها أمر واقع يُستوجب معالجة لا أكثر. الخطر هو تحويل فلسطين من قضية إلى ملف، بما يعنيه هذا التحول، في عمقه، من نزع العنصر الأخلاقي والوجداني، أو على الأقل امتصاصه، لحساب منطق السياسة الخام، أي منطق المصلحة المجرّدة، وبما يعنيه أيضًا من تحويل العربي غير الفلسطيني إلى عنصر محايد.
أكبر تحصين للقضية هو في تعميق تعريفها بأنها قضيتنا، أي أن كل عربي هو فلسطيني بالضرورة، وبأنها قضية أخلاقية وأمانة متوارثة. فلا يمكن، بالنهاية، ضمان التشبث بثوابت القضية دون تحصين هذه الثوابت في ذاكرة الأجيال القادمة.
اقرأ/ي أيضًا: