كنت في مدينة تلمسان، 700 كيلومتر إلى الغرب من الجزائر العاصمة، حين بلغني أن دونالد ترامب "اعترف" بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي. علمًا أن كلمة "اعترف" مغلوطة في هذا السياق، لأنها تدلّ على أن المعترف به من حقّ المعترف له تاريخيًا وهذا ما ينكره التّاريخ والعرف الدّولي.
ما هذا الزّمن الذي بتنا خاضعين فيه للقوة لا للمعرفة وللظلم لا للعدالة الكونية؟
كنت في سعة من أمري، فضاق بي المكان بما رحب. ذلك أن الخطوة حمقاء ووقحة في حقّ التّاريخ والجغرافيا والإنسانية وقيمها المتعارف عليها، ولولا القوّة العمياء ما رأت النّور. ما هذا الزّمن الذي بتنا خاضعين فيه للقوة لا للمعرفة وللظلم لا للعدالة الكونية؟ وللتغنّي بمحاربة الإرهاب من جهة والتصرّف بما يُعزّزه ويغذّيه من جهة أخرى؟ ما معنى أن ينتصر العالم على داعش في العراق وسوريا، ويجرّده من "أراضيه"، فيما تمنح أمريكا ترامب أرضًا لإسرائيل ليست لها؟
اقرأ/ي أيضًا: كنت فدائيًا في فلسطين
حملت نفسي إلى ضريح سيدي أبي مدين شعيب في تلمسان، وأشعلت شمعةً للقدس. ذلك أن الرجل حارب مع صلاح الدّين الأيّوبي لتحرير بيت المقدس، فقطعت يمناه ودفنت هناك، واشترى أرضًا أوقفها على المقدسيين، ولا تزال حتى اليوم تسمّى حارة المغاربة، قبل أن يعود إلى الجزائر، فيستقرّ في بجاية ويُدفن في تلمسان. وهو بهذا يمثّل نموذجًا حقيقيًا لعلاقة الجزائري بفلسطين.
ليس من باب المفاضلة والمزايدة القول إنها علاقة خاصّة وجديرة بالانتباه والدّراسة. فالجزائري يمينيًا كان أم يساريًا وعربيًا كان أم أمازيغيًا وشماليًا كان أم جنوبيًا وشابًّا كان أم شيخًا ومغتربًا كان أم مقيمًا ومعرّبًا كان أم مفرنسًا وشعبيًا كان أم حكوميًا ومدنيًا كان أم عسكريًا يتعامل مع الحقّ الفلسطيني كما لو كان حقّه الشّخصي، ويتحمّس له كما تحمّس أجدادُه لحقّهم في الاستقلال الوطني خلال ثورة التّحرير 1954 ـ 1962، وما إعلان قيام الدّولة الفلسطينية فوق الأرض الجزائرية عام 1988 إلا دليل بسيط على ذلك.
لقد كبرتُ وأنا أسمع هذه العبارة على ألسنة كثيرة: "لو كانت فلسطين جارةً للجزائر لتحرّرت منذ مدّة". وهي الرّوح التي لم يخنها الجزائريون شعبًا وحكومة وجيشًا أبدًا، ممّا جعل الشابَّ الفلسطيني يختار العلَم الجزائري من بين أعلام العالم كلِّه ليحمله خلال انتفاضة الخناجر الأخيرة، ويتدثّر به، فكأنه أراد القول إنني في حماية عَلَمٍ نسجه الشهداء ورفعه الثوّار وأولادهم حتى افتكّوا الاستقلال الوطني. إذ ليس هناك شبيه بالاحتلال الإسرائيلي في نزعته الاستيطانية الطامسة لملاح الهوية الأصلية إلا الاحتلال الفرنسي للجزائر في القرنين التاسع عشر والعشرين.
لم يحدث في تاريخ كرة القدم أن شجّع الجمهور فريقًا خصمًا إلا الجمهور الجزائري في المقابلة التي جمعت فريقه مع الفريق الفلسطيني
لم يحدث في تاريخ كرة القدم أن شجّع الجمهور فريقًا خصمًا على أرضية الميدان إلا الجمهور الجزائري في المقابلة التي جمعت فريقه الوطني مع الفريق الفلسطيني، وعمل اللاعب المحلّي على أن تُقذف الكرة في مرماه إلا اللاعب الجزائري في المقابلة نفسها، إذ كان ينتفض فرحًا حين يسجل الفلسطينيون ضدّه.
اقرأ/ي أيضًا: لو كنتُ فلسطينيًا لرفعتُ العلم الجزائري
ماذا لو فتحت الحدود وبات ذهاب الجزائريين إلى فلسطين متاحًا؟ سأعتمد على الإشارات السّابقة وغيرها كثير جدًّا للقول إنه لن يبقى في الجزائر حينها إلا المقعدون والأطفال والعجزة والموتى. وهو معطًى تعرفه المخابر الإسرائيلية والأمريكية جيّدًا، لهذا فإن مخاوفها من إمكانيات الجيش الجزائري ظلّت قائمة، منذ فتوحاته في حرب 1973، تمامًا كما بقيت دسائسها لتفكيكه قائمةً من خلال تفخيخ الحدود، التي تتجاوز 7000 كيلومتر.
اقرأ/ي أيضًا: