عندما أنهى الصحفي البريطاني جون سنو حواره، مع الفنانة التشكيلية المقيمة بغزة، مجدل نتيل (28 عامًا)، خطر لها أن تستعين به، كأجنبي، يمكنه إخراج لوحاتها الفنية معه عبر معبر بيت حانون "إيرز". لم يتردد الصحفي، الذي جاء يسجّل معاناة الغزيين مع الحصار الإسرائيلي، في قبول الطلب. هكذا سافر سنو مع 399 لوحة من أعمال نتيل في اليوم التالي من اللقاء.
ثمة أعمال تحمل رسائل إنسانية فنية هامة يعجز الفلسطينيون عن إخراجها في ظل حصار غزة
هذا الموقف هو واحد من تجارب عدة، قام بها الفنانون التشكيليون بغزة من أجل التغلب على حصارهم الذي حال دون سفرهم. لم يجدوا سبيلاً لإخراج أعمالهم الفنية للمشاركة في معارض خارج حدود قطاع غزة، إلا عبر الاستعانة بأشخاص ومؤسسات دولية، تتمكن بين الحين والآخر، من دخول قطاع غزة، ويخفف الاحتلال من الرقابة على خروجهم.
نتيل تقول إن هماً كبيراً أزيح عن صدرها. فقد اطمأنت إلى أن لوحاتها لم تصادر من قبل الاحتلال، وأنها ستتمكن من المشاركة مع فنانين آخرين في معرض "بي 21" الذي يقام في لندن تحت اسم "غزة في غزة"، ويتحدث عن العدوان الأخير على القطاع. تقول: كنت سعيدة جدًا بتحمسه وقبوله حمل أعمالي في حقيبته الشخصية، فأنا أعلم أن جنسيته الأجنبية في الغالب، ستحمي أعمالي المنقولة معه عبر المعبر من قبل الاحتلال". تشعر الفنانة الفلسطينية بالقهر، لكن الصحفي خفف من حدة شعورها بالقهر، الناتج عن منعها من السفر والمشاركة في المعارضة الدولية. نتيل، كغيرها من الفنانين التشكيلين، حُرمت من عدة فرص خارجية للمشاركة في معارض فنية، لكنها تمكنت أكثر من مرة من إخراج أعمالها، كتلك التي أخرجت فيها لوحات معرض "لو لم أكن هناك" الذي تضمن 400 رسالة متخيلة من الأطفال الشهداء.
اللوحات التي تبحر
كانت مهام سفن فك الحصار التي قدمت إلى غزة عام (2009) متعددة. هكذا، فكر الفنان التشكيلي سلمان النواتي (28 عامًا) أن يستعين بها. فكر بالاستعانة بأحد المتضامين الأجانب لإخراج أعماله الفنية إلى أوروبا، وتمكن فعلا من تحقيق ما طمح إليه، مرسلًا معه عددًا من اللوحات التي تحكي قصة "ميناء غزة" بطريقة فنية معاصرة. في المرة الثانية لم ينتظر النواتي سفن فك الحصار لإخراج أعماله، بل استعان بالمركز الثقافي الفرنسي، الذي أرسل الأعمال عبر طاقمه إلى رام الله ومدن الضفة الغربية، وكان معرضًا فنيًا بعنوان "بورتريه"، الذي يحكي تجربة شخصية عن معاناة النواتي من ألم في الرقبة.
يقول النواتي: "رغم أنني أعد نفسي محظوظًا لتمكني من السفر عدة مرات في السنوات الماضية، إلا أن الفنانين التشكيليين يعانون كثيرًا في ظل إغلاق المعابر، فلا يتمكنون من السفر ولا يستطيعون إخراج أعمالهم بسهولة، لذا كنا مضطرين دائماً للاستعانة بالأشخاص القليلين الذين يتمكنون من دخول قطاع غزة أو ببعض المؤسسات التي تدير أعمالًا في غزة".
خارج الحدود
إلى الأردن والإمارات، وأيضًا إلى الوطن في الضفة الغربية، سافرت أعمال الفنان الفلسطيني مروان نصار عن طريق المركز الفرنسي ومؤسسات خارجية. يقول نصار إن طبيعة التحديات التي يمر بها الفنان الفلسطيني تفرض عليه الانطلاق خارج الحدود كي يوصل رسالة شعبه الذي يمر بحالة حرمان وقتل وطمس للهوية . ويتابع: كل فنان مجبر على الإبحار بأفكاره خارج حدود فلسطين، وكان علينا أن ننحت بالصخر كي نخرج ونعرض أعمالنا لتتعدى الحدود، وكي تندمج مع الواقع المتسارع للفن العالمي ومواكبة المعاصرة المحيطة بنا، والانطلاق برؤية حديثة تحاكي الواقع الفلسطيني وتعبر عن المظلوم والطموح والمقاوم الفلسطيني مع الحفاظ على مفردات العمل الوطني".
ولأن نصار يؤمن أن وظيفة الفنان التشكيلي يجب أن تتعدى كونها مهنة أو حرفة أو حتى التفكير في كيفية التسويق لأعماله بمفهوم مادي، يؤكد أن التشكيلي في قطاع غزة يقع على عاتقه تنبيه ضمير البشرية بفنه، ليربط مؤسسات العالم وأفراده بمجتمعه، خاصة إذا كان مجتمعًا لا يعيش ظروفه عادية، كما المجتمع الفلسطيني.
لولا فسحة الأمل
يؤكد لنا رئيس جمعية الفنانين التشكيليين عصام حلس أن فناني غزة التشكيليين لا يكلون ولا يملون في سعيهم من أجل إيصال رسائلهم الإنسانية عبر الفن، سواء بإخراج أعمالهم للمجتمع الفلسطيني أو إخراجها للعالم أجمع... "كنا نتمكن بسهولة من المشاركة في جميع المعارض التي نريد وتقام في الدول العربية أو الغربية، كما استضافنا الكثير من الفنانين على مستوي الشرق والغرب"، ويتابع :"اليوم تغيرت الأمور، هناك الكثير من الأعمال الخاصة بوضع غزة، ثمة أعمال تحمل رسائل إنسانية فنية هامة نعجز عن إخراجها في ظل الحصار وإغلاق المعابر، وتُصادر لو أرسِلَت بالبريد على معبر بيت حانون". من أجل ذلك يستعين الفنانون بمؤسسات دولية وأشخاص لإخراج الأعمال، هؤلاء ساهموا بالفعل في دعم الفنان الفلسطيني وإقامة معارضه بالخارج وساعدوه على تسويقها وبيعها. والثابت أن الحصار يدوم إلى الأبد، ولا يمكن أن يبقى كذلك.