فيليب روث، أحد أعمدة الرواية الأمريكية وأشهرهم صيتًا وأكثرهم جدلًا وأغزرهم إنتاجًا وأكثرهم نيلًا للجوائز. فقد نال روث تقريبًا نصيبًا من كل جائزة أدبية كبرى، باستثناء نوبل للآداب (حُجبت سنة وفاته عام في 2018) من بينها جائزة الكتاب الوطني (مرتين)، وجائزة دائرة نقاد الكتاب الوطنية الأمريكية (مرتين)، وجائزة القلم/فولكنر (ثلاث مرات)، والبوليتزر، وجائزة بوكر العالمية.
فيليب روث، أحد أعمدة الرواية الأمريكية وأشهرهم صيتًا وأغزرهم إنتاجًا وأكثرهم نيلًا للجوائز . فقد نال روث تقريبًا نصيبًا من كل جائزة أدبية كبرى
تفلّتت نوبل للآداب من فيليب روث، عامًا وراء عام، وهو يعلن التوقّف عن الكتابة في كلّ مرّة ثم يعاوده إغراؤها، بحثًا عن مجد جديد، عبر رواية عظيمة أخرى تنضاف إلى قائمة أعماله الطويلة. وقد أنتج بالفعل عدة روايات بارزة في سنّ الستين، وهو خريف الكتابة لمعظم الأدباء، أهمها "الراعي الأمريكي"، و"وصمة بشرية"، و"تزوجت شيوعيًا". ثم أخذ على نفسه أن يؤلف كتابًا كل عام، بدءًا من العام 2006، حين بلغ السابعة والثلاثين، واستمرّ على تلك السنّة عدة أعوام. نعته الواشنطن بوست ووصفته بأنه "أشدّ ظرفًا من جون أبدايك، وأكثر غضبًا من دون ديليلو"، لكنه متّهم أيضًا بكون شديد الهوس بالجوائز وتحصيل النفوذ في عالم النشر، بحسب كتاب جديد عنه، يتضمّن تفاصيل مراسلات تكشف أسرارها لأوّل مرّة، ننشر هنا بعض تفاصيلها كما وردت في مقال داليا أبيرغ، في صحيفة الغارديان.
كانت صدمة للأستاذ جاك بيرلينيربلاو (Jacques Berlinerblau)، الذي اطلع على هذه المراسلات أثناء إعداده كتابًا جديدًا عن فيليب روث، حين اكتشف انتهازية فيليب روث ومساعيه الحثيثة غير المعلنة لبناء شبكة علاقات في عالم النشر والنقد الأدبي والأكاديميا خدمةً لمآربه الذاتية المتعلقة بالنشر ونيل الجوائز. يقول البروفيسور جاك: "يصعب أن تتخيل صدور ذلك من رجل تعجّ كتاباته بالحديث عن شخصية الكاتب الذي ألف الوحدة في حياته". أما شبكة علاقات روث، فلم يتضح نطاقها وحجمها إلا بعد الاطلاع على عشرات الرسائل المحفوظة في أرشيف مكتبة الكونغرس في واشنطن.
اقرأ/ي أيضًا: فيليب روث: حين أكتب فثمّة أنا، وحدي
نشر بيرلينيربلاو، الأستاذ في جامعة جورجتاون الأمريكية، عدة دراسات عن روث، وحاضر عن أعماله على مدى ثلاثة عقود، وقد قال معلقًا على رسائل روث: "الأمر الذي راعني أثناء النظر في هذه المواد هو اكتشافي لمقدار الوقت الذي أمضاه روث في بناء تلك العلاقات التنفيعية المتبادلة، بتسهيل مصالح أشخاص وتنفيع آخرين والتوصية بهم. فالعديد من الرسائل توضح أن أصدقاء في قطاع النشر والكتابة كانوا يسدون الخدمات لروث، من بينهم أعضاء في لجان تحكيم لجوائز أدبية، وثمّة ما يكفي من الأدلة للاستدلال على أن روث كان يبادلهم فضلًا بفضل، وخدمة بخدمة".
ويردف بيرلينيربلاو: "لا نجد في أعمال روث، حول شخصية ذلك الكاتب الذي بدا لكثيرين أن روث يتحدث عن نفسه من خلاله، أي ذكر عابر أو صريح لهذا الجانب من حياته. شعرت بنوع من الخيبة حين اكتشفت ذلك، لأني، ويا للسذاجة، ظننت أن هذا الكاتب العظيم لم يكترث بشيء سوى الفنّ والإبداع، بكل ما يتطلب ذلك من نزاهة ورعة والتزام صارم. فنحن لدينا تلك الفكرة الرومانسية الحالمة عن "الرجل العظيم"، الذي يفني ذاته في مشروعه، وهو ما يذكّر به روث دومًا في رواياته، ولاسيما في "الكاتب الشبح"، التي تعدّ ربما أفضل ما كتب. لقد بنى روث عن نفسه تلك الصورة، بأنه يرغب أن يكتب ولا ينقطع عن الكتابة، شغفًا بالفنّ وحسب، ولا شيء سوى الفنّ، دون أن يقحم الشخصيّ عليه ويلطّخه به".
لقد تملّكت روث رغبة جامحة بامتلاك السيطرة على سمعته حتى بعد وفاته، وهو ما دفعه إلى التعاون مع كاتب سيرته، بليك بيلي، والذي مكّنه من الاطلاع على كنزٍ فريد من المواد الأرشيفية, وقضى معه قبل وفاته عشرات الساعات في حوارات وتسجيلات نادرة. ويشير بيرلينيربلاو إلى أن روث، في مقابلة معه عام 2012، قد ذكر بأنه طلب في وصيّته أن يتم التخلص من بعض المواد بعد وفاته، وهو ما يؤكّد الصورة الشائعة عنه من أنه يريد التحكّم بذكراه من قبره، بحسب تعبير بيرلينيربلاو، والذي أكّد أنّ روث قد تخلص بالفعل من بعض أرشيفه قبل أن يدركه الموت، وأنّه قد أمضى أوقاتًا طويلة محاولًا ضمان أن لا يكون في سيرته المعروفة ما يشينه ويعيق تقدّمه.
ورغم أن جميع الكتّاب يحرصون على سمعتهم وتحقيق النجاح والوصول إلى دوائر جديدة من الأضواء وتحصيل الاعتراف، إلا أن بيرلينيربلاو يؤكّد بأن روث "استفاد من شبكة من العلاقات والمصالح المتبادلة والتنفيعات على نحو لم يكن متاحًا لكثيرين سواه". كما يظهر أن آراء بيرلينيربلاو قد انطلقت من فرضيّة شديدة السذاجة، تنزّه الكاتب عن السعي وراء بناء العلاقات مع الناشرين والنقاد، وترى أن ذلك، في ذاته، يشين الكاتب أو الناشر. وهذا ما يعترف به الكاتب نفسه، والذي يقول إنه قد بنى صورة "حالمة" وغير واقعية عن الكاتب، وما يحبّ أن يكون عليه كاتب عظيم في طبقته.
فالرسائل تكشف شكلًا من التواطؤ غير الشريف، كتلك الرسالة التي كتبها روث لأكاديمي يخبره فيها عن مساعيه في تأمين منصب أكاديمي معيّن له، علمًا أنّ هذا الكاتب قد نشر مقالات أفرطت في تقريظ كتابات روث وأعماله. وقد تكرر ذلك في مراسلات أخرى بين روث وناقد أدبي آخر، فيها أحاديث عن الأدب والكتابة، لكنها في جوهرها أحاديث عن مصالح شخصيّة، ناقشا فيها كيفية التعاون لتحصيل جائزة، أو نيل مصب، وهو ما عزّز لدى بيرلينيربلاو تلك الصورة القاتمة عن عالم النشر، وما يسيطر عليه من مصالح ضيقة.
ففي إحدى الرسائل، بعث ذلك الناقد تهنئة إلى روث بعد تلقيه جائزة مرموقة، وكان هذا الناقد عضوًا في لجنتها التحكيمية، ويظهر من فحوى الرسالة بأن روث قد ردّ له الجميل، إذ يقول الناقد في رسالته: "لقد تقدمت للحصول على منحة زمالة جديدة، وإني أطلب منك التكرّم بإعادة النظر في التوصية التي كتبتها مؤخرًا، وترسل لي نسخة جديدة منها".
كانت تلك مفاجأة صادمة للأستاذ الساذج بيرلينيربلاو، والذي يصف نفسه بأنه "أكاديمي ليبرالي، أؤمن بالمسافة النقدية ولجان التحكيم والمراجعة "العمياء"، حيث يتم التقييم دون معرفة الكاتب ولا الجهة التي رشحت عمله".
لكنها لعبة الكتابة والنشر، ويبدو أن روث، راغبًا أو راغمًا، قد اقتحمها ولعب بها وفق شروطها، إذ كان يعلم، بأن تلك هي السبيل لضمان رواج اسم الكاتب وفرض نفسه في عالم التأليف والنشر والجوائز الأدبية. لكن المفاجئ بالنسبة إلى بيرلينيربلاو، الذي تربطه حالة من الهيام السابق بفيليب روث وأعماله، هو أن ذلك كان مسلكًا شائنًا لكاتب عظيم مثل فيليب روث.
ما يبدو أكيدًا على أيّة حال، هو أن حكاية روث وسيرته لن تنتهي هنا، وأن الكلمة الأخيرة لن تكون للأستاذ بيرلينيربلاو
ما يبدو أكيدًا على أيّة حال، هو أن حكاية روث وسيرته لن تنتهي هنا، وأن الكلمة الأخيرة لن تكون للأستاذ بيرلينيربلاو، فسيرة فيليب روث التي كتبها بيلي لم تنشر بعد، ومن المتوقع أن تكون أشدّ إثارة للجدل لما فيها من تفاصيل عن علاقاته الحميمية مع النساء، وشؤونه اليومية الخاصّة، وهنالك أيضًا سيرة أخرى للكاتب أعدها الناقد الكندي إيرا ناديل، بعنوان (Philip Roth: A Counterlife)، وكتاب سيري آخر للأستاذ ستيفن زيبرشتاين من جامعة ستانفورد، إضافة إلى التفاصيل الأخرى التي سيكشف عنها كتاب جاك بيرلينيربلاو. وهكذا تتحقق أمنية روث، التي عبر عنها في مقابلة معه عام 2013، حين قال إنّ ثمة خوفين ينغصان عليه حياته: الأول هو فكرة الموت، والثاني أن يصدر كتاب عن سيرته. وقد تمنّى في المقابلة أن يحلّ الأول قبل الثاني، وهو ما كان.
اقرأ/ي أيضًا: