الاستشراق هو مصطلح لخطاب غربي معني بالسيطرة على الشرق في العلوم والسياسة، والذي يختلف لغويًا عن الدراسات الشرقية العلمية. صاغ إدوارد سعيد مصطلح "الاستشراق" في كتابه الذي يحمل نفس الاسم، والذي نُشر عام 1978 وحقق نجاحًا باهرًا، حيث أطلق تغييرًا عميقًا في الدراسات الشرقية، بل وأسس مجالًا جديدًا للدراسة، "دراسات ما بعد الاستعمار" وقد ركز فيه سعيد على الهيمنة الغربية على الشرق في القرن التاسع عشر إلى الجانب الهيمنة الأنجلو - أمريكية في القرن العشرين. يفهم سعيد الاستشراق كأداة لحكم الشرق والسيطرة عليه عن طريق نظام علمي تستخدمه السياسة في تفاعل المعرفة والسلطة. ويرى إدوارد سعيد في أن الاستشراق هو "أسلوب للسيطرة وإعادة الهيكلة وامتلاك سلطة على الشرق". يعبر هذا التفكير عن شعور بالتفوق على الشرق وهو جزء من الثقافة السياسية والفكرية الحديثة لحاضرنا.
ينتقد المؤلفون العرب الاستشراق باعتباره ممارسة غيرية تعكس التحيز والعنصرية وهو يرتكز على تقليد طويل لخطاب وطريقة تفكير خدمت المصالح الغربية
يتم تقديم الاستشراق كخطاب يتفاوض فيه "الغرب المستنير" على "الشرق الغامض" بقدر ما يهيمن ويتسم بتقليد متواصل من العداء العميق الجذور للإسلام. ويحد سعيد في دراسته من انتقاداته لـ"الاستشراق الأكاديمي" أي في ما يتعلق بالدراسات الأكاديمية للدراسات الشرقية أو الدراسات الإسلامية، حتى نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "في النظرية: طبقات، أمم، آداب".. الاستشراق وما بعده
وقد أدى انتقاد إدوارد سعيد الفلسطيني الأصل للخطاب الغربي حول الشرق إلى نقاش مستمر حول مفهوم الاستشراق، الذي أصبح مستقلًا بشكل متزايد ويمكن تقسيمه إلى نقاش عربي وغربي. في العالم العربي الإسلامي، يُناقش الاستشراق على أنه مشكلة علمية وسياسية. ينتقد المؤلفون العرب تشكيل الشرق كموضوع للعلم الغربي ويدينون الاستشراق باعتباره ممارسة غيرية تعكس التحيز والعنصرية وهو يرتكز على تقليد طويل لخطاب وطريقة تفكير، خدمت المصالح الغربية للسيطرة على الشرق.
من وجهة نظر سياسية، تم انتقاد الهيمنة الغربية على الشرق في المقام الأول، والتي استمرت على الصعيد الفكري والثقافي منذ الاستعمار. يرى النقاد العرب أن الأسباب هنا متجذرة في الصراع القديم بين الإسلام والمسيحية، والذي يجدده الاستشراق. ووفق التفسير العلماني، تُعزى السيادة الغربية إلى المركزية الأوروبية القوية، والتي تستمر مع العولمة. وفي الجانب الغربي يُنظر إلى الجدل الاستشراقي بشكل أساسي على أنه مشكلة علمية، على الرغم من أن بعض المؤلفين حددوا أيضًا التشابكات السياسية في الاستشراق، حيث يتم إعادة الاستشراق إلى تطور الدراسات الشرقية في سياقها الفكري والتاريخي. يمكن فهم الدراسات الشرقية والاستشراق هنا على أنهما خطاب موحد يؤدي من جهة إلى التعريف الذاتي للغرب، ومن جهة أخرى يهدف إلى إضفاء الشرعية على الادعاء الغربي بالحكم في السياسة والعلوم.
عن الاستشراق الألماني
في كتاب الاستشراق ولأسباب تاريخية ركز إدوارد سعيد تحديدًا على الهيمنة البريطانية والفرنسية، ولاحقًا الأمريكية، على المشرق العربي الإسلامي، وفي المقابل كان يرى أن ألمانيا لم يكن لديها "مصلحة قومية طويلة الأمد ومستمرة في الشرق" وبالتالي لا يوجد استشراق ألماني من النوع ذي الدوافع السياسية. وقد جادل إدوارد سعيد بأن الاستشراق الألماني كان مهتمًا بالدراسة المهنية للنصوص الشرقية بدلًا من ممارسة القوة الاستعمارية.
وفي ظل غياب "المصلحة القومية" المباشرة، وجدت الدراسات الاستشراقية الألمانية مكانها بعيدًا عن الممارسات الاستعمارية. كما أن حضور علماء اللغة والمؤرخين والفلاسفة وعلماء الآثار الألمان في عالم الدراسات الشرقية في القرن التاسع عشر وسمعتهم الدولية هو أمر لا جدال فيه. علاوة على ذلك، كان الشرق الألماني حسب سعيد عبارة عن شرق علمي بشكل حصري تقريبًا، أو على الأقل كلاسيكيًا: لقد كان موضوعًا للكتابات والتخيلات وحتى الروايات. وبينما كان البريطانيون والفرنسيون يستعمرون العقول والأجساد والأراضي، عمل الاستشراق الألماني على "صقل وإنجاز تقنيات لتطبيقها على النصوص والأساطير والأفكار واللغات" والتي "جُمِعت حرفيًا من المشرق من قبل الإمبراطورية البريطانية وفرنسا". ونظرًا لأن الدراسات الألمانية حول الشرق كانت تفتقر إلى "الشراكة الوثيقة" و"المصلحة القومية المستمرة في الشرق" خلال معظم القرن التاسع عشر، كما يقول سعيد، فإن الكتابات الألمانية عن الشرق أو الشرق في هذا الصدد، لا يمكن إلا أن تظل خيالية وعلمية.
كانت الدراسات الشرقية بالألمانية رائدة على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. ولم يكن هناك مكان آخر كان فيه البحث الشرقي راسخًا بقوة جامعات ألمانيا
ومع ذلك، يجب طرح السؤال: هل طورت ألمانيا تقليدًا استشراقيًا من النوع الذي وصفه سعيد؟ إن الإجابة هي نعم ولا على حد تعبير سعيد، فقد تشاركت ألمانيا في "نوع من السلطة الفكرية" على الشرق. حيث كانت لها قواسم مشتركة مع الاستشراق الأنجلو-فرنسي والأمريكي فيما بعد وهو نوع من السلطة الفكرية على الشرق. ومع ذلك، "لم يكن هناك شيء في ألمانيا يتوافق مع الوجود الأنجلو-فرنسي في الهند، والشام، وشمال أفريقيا".
اقرأ/ي أيضًا: الاستشراق المعكوس
واجه إدوارد سعيد انتقادات بعد عدم تضمينه ألمانيا في دراسته كقوة إمبريالية سعت للسيطرة على الشرق إلى جانب بريطانيا وفرنسا، ولكن حتى بعد سنوات من نشر كتاب الاستشراق رأى سعيد إنه لم يقدم أحد أي سبب لإدراج ألمانيا في تحقيقه، وأن الانتقادات التي تشير إلى غياب ألمانيا في دراسته كانت "سطحية وتافهة" ولا وجدوى من الرد عليها.
كان تركيز سعيد على العلاقة بين المعرفة والهيمنة الاستعمارية مرتبطًا بتركيزه على المصادر البريطانية والفرنسية وأيضًا الأمريكية في القرن العشرين. ووفق هذه المصادر لم تتابع ألمانيا أي مصالح استعمارية مباشرة في المنطقة حتى نهاية القرن التاسع عشر، وكانت الدراسات الشرقية بالألمانية رائدة على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. لم يكن هناك مكان آخر كان فيه البحث الشرقي راسخًا بقوة في الجامعات، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يستقر العلماء البريطانيين والأمريكيين والفرنسيين في مراكز تدريب الدراسات الشرقية في جامعات ألمانيا مثل جوتنجن، لايبزيغ، وبرلين.
يعتبر الأديب الألماني الشهير في عصر التنوير إبراهام ليسينغ أول من رسم صورة جديدة للشرق لقرائه. طبق ليسينع عملية جديدة، تسمى الترقية المحسوبة أو الاستراتيجية. يتم فيها التأكيد على الجوانب الإيجابية للناس والأديان والثقافات. وبشكل عام أولى المستشرقون الألمان بالذات منذ انفتاحهم على الشرق الثقافة العربية اهتمامًا بالغًا، وكان الاستشراق الألماني "الأدبي" يتمتع بخصوصية تتجاوز فكرة الاستعمار وغيرها من التهم التي تواجه المد الغربي عند طرح مسألة الاستشراق، وهو الاختلاف الذي ظهر في الأعمال الأدبية الفنية الألمانية المعنية بالثقافة العربية والشرقية بشكل عام، لا سيما اهتمام الأدباء الألمان بالشعر والأدب العربي ومنهم الشاعر الألماني الكبير فولفغانغ غوته الذي قام بتأليف "الديوان الغربي الشرقي"، أو مثلًا الشاعر والمستشرق فريدريش روكرت الذي قام بتراجم عديدة عن العربية والفارسية، حيث قام بترجمة القرآن الكريم إلى الألمانية وله ديوان شعري تحت عنوان "ورود شرقية".
كان المستشرقون الألمان يؤمنون باختلاف جماليات الأدب والفكر والتنوع الحضاري وسعوا إلى نقل المعرفة والاستفادة منها، واكتشاف أسرار الأمكنة التي بزغت منها علوم الحضارة العربية والإسلامية التي امتدت فروعها إلى أوروبا، ومن هذا المنطلق سعوا إلى الحفاظ على حلقة الوصل بين الشرق والغرب عبر إرسال المستشرقين المهتمين بالثقافة العربية، وهذا الاهتمام الألماني مهد إلى دخول الألمان على خط المنافسة مع الإنجليز في التنقيب الآثاري في الشرق الذي قاد إلى اكتشاف مدينة بابل الأثرية، وفي الحديث عن المستشرقين الألمان فهناك بالتأكيد أسماء لامعة عديدة ومنهم غوستاف باورنفايد وكارل هاغ وأدولف زل وفيرديناند ماكس بريت وكارستن نيبور وروبرت كولديفي وماكس فون اوبنهايم وتيودور نولدكه وآن ماري شمل وزيغريد هونكة وغيرهم الكثير.
يمكن القول وعلى ضوء تحليل إدوارد سعيد؛ التواجد الألماني في الشرق لم يكن استعماريًا بقدر ما كان قوميًا، ولم يكن سياسيًا بقدر ما كان ثقافيًا
وفي السنوات القليلة الماضية على وجه الخصوص، ظهر عدد كبير من الأعمال حول الشرق في الأدب الألماني وفي العلوم، مما يؤكد الدور المركزي للسياق الألماني-الشرقي بعيدًا عن المصالح السياسية المباشرة.
اقرأ/ي أيضًا: رسائل إدوارد سعيد إلى صادق جلال العظم
يمكن القول وعلى ضوء تحليل إدوارد سعيد أن التواجد الألماني في الشرق لم يكن استعماريًا بقدر ما كان قوميًا، ولم يكن سياسيًا بقدر ما كان ثقافيًا. وقد كان العلماء الألمان من رواد الدراسات الشرقية بين الفترة الممتدة من 1830 إلى 1930، على الرغم من دخولهم السباق الاستعماري متأخرًا وخروجهم منه مبكرًا. أن المستشرقين الألمان تخيلوا عالمهم الخاص في الشرق والعالم كنتيجة للعلاقات وعمليات التبادل والتمازج بين الثقافات ويبدو أن الدراسات الشرقية الألمانية هي مؤسس لنموذج التبادل الثقافي وتاريخ النقل وكانت الدراسات الاستشراقية ذات أهمية جوهرية أيضًا للتاريخ الثقافي الألماني الحديث بقدر ما كانت مفيدة أيضا لتراث المشرق العربي العظيم.
بالطبع لا يمكننا الجزم بمصداقية الاستشراق الالماني وكاتب السطور لا يحاول تبرئة ألمانيا وإنما أراد أن يستند على المصادر التي قيمت الاستشراق الألماني، وعلى رأسها عمل إدوارد سعيد الأشهر "الاستشراق"، والذي برأ إلى حد ما ألمانيا من تهمة الاستشراق الإمبريالي، أو على الأقل يمكن القول إن الاستشراق الألماني مقارنة بالاستشراق الفرنسي والبريطاني والأمريكي هو الأكثر علمية والأكثر اهتمامًا بالدراسات البحثية، بغض النظر عن المطامع السياسية الألمانية في الشرق والتي باءت بالفشل أمام المد البريطاني والفرنسي، ومن المهم أيضًا الفصل بينها وبين الاستشراق الألماني الأكاديمي المنسلخ عن النشاط السياسي.
اقرأ/ي أيضًا: