لكل شاعر قصيدة قريبة من قلبه ولسانه، يغنيها في الوحدة ويفخر بها في الاجتماع، يطلبها منه أصدقاؤه فيبتسم، ويلحّ عليه جمهوره ليستمعوا إليها، فيرضى حينًا ويأبى أحيانًا.. تلك هي "المؤنسة": بسيطة، عفوية، رقيقة، شفّافة، دافئة، صافية، منسابة، عجلى، زاهية مزهوة، مباشرة إلى القلب، مرسلة بعلم الوصول، محملة بالوجع، ومشفوعة بالحنين، يحفظها اللسان وتتراقص معها الملامح. إن لمحت شاعرًا وهو ينشد "مؤنسته"، فراقبه وهو يحرّك بها لسانه ليعجل بها، ثم يلقيها على الحاضرين بلا عناء، كما لو كان يبتسم، ينتقل بين إيقاعاتها بلا مشقة، وقبل البدء في الإلقاء يستدعيها من لاوعيه وكأنه سيكتبها في الآن، ثم يستقبلها بشهيق طويل كمسجون خرج توًا من حبسه الانفرادي إلى الفضاء الوسيع.
حمل لنا تاريخ الأدب العربي "مؤنسات" كثيرات، أشهرها تلك التي تخصّ مجنون ليلى
تاريخ الأدب العربي حمل لنا "مؤنسات" كثيرات، أشهرها تلك التي تخصّ مجنون ليلى، وفي الأغلب تكون "مؤنسات" الشعراء شديدة الخصوصية وهذا سرّ دفئها وعالميتها.
اقرأ/ي أيضًا: محمود درويش اكتشافنا الدائم
من بين عشرات القصائد التي كتبها محمود درويش، تقف "أحن إلى خبز أمي" كعروس، أبدية الحسن، أزلية الدفء، عميقة الطزاجة، من عشقه فيها وغرامه بحروفها، كان يبخل على جمهوره بها، وكثيرًا ما كان يقول منها أول شطرين فقط في آخر كل أمسية يحييها، ربما لأنها كانت تفضح روحه البريئة الساذجة الندية، فيكشفها ثم يتوارى عن العيون، وربما ليذكّر جمهوره بأنه ما زال طفلًا يحنّ إلى خبز أمه فيشملوه بحبهم ويؤثروه بعطفهم، ويغرقوه بتصفيقهم فيرضى الطفل عن الغرباء ويبشّ كما لو كانوا أهله، أو ربما لأنه يدرك أن الكمال نقصان، فكان لا يكملها لكي لا تنقص، أو ربما كان يدرك مدى حميميتها وصدقها، فيؤخّرها إلى نهاية كل حفل ليلقيها على أحبائه كقبلة وداع.
المناقيش المصنوعة من زيت الزيتون والزعتر، هي الخبز الذي كان محمود يحنّ إليه، والبنّ العربي المُحمّص في البيت والمحوّج بالعنبر والهال والمستكة والقرنفل هو البنّ الذي كان محمود يحب أن تصنع منه قهوته. سنين طوال وأنا أقرأ "أحنّ إلى خبز أمي وقهوة أمي"، ولم أكن أعرف ممّ يتكون هذا الخبز الأسطوري، أو ممّ تتكون هذه القهوة الخمرة، والأغرب أني لم أكن أعلم أن "الأم" ما زالت تعيش وتخبز وتصنع القهوة وتنشد الزجليات إلا بعد وفاة "الغالي" الذي جعل الشعب العربي كله يحنّ إلى أمه وخبز أمه وقهوة أمه ولمسة أمه.
كان ذلك قبل عشر سنوات. لم يستحوذ على عيني في كل المواد التلفزيونية التي أذيعت عقب وفاة درويش، إلا مشهد ظهور "الأم" في الجنازة. ظهرت الأم، فبهتت صورة أبو مازن، وغام صوت سميح القاسم، وامتلأت القاعة بالنحيب. ظهرت الأم، دون تنويه سابق من القناة الناقلة لمراسم تشييع الجنازة أن هذه هي الأم، فشعرت أنها هي، ثم تأكدت من ذلك حين قابلها أحد المذيعين فقالت له: "قولوا عليا زي ما تقولوا، قولوا مخبولة، اتجننت، خرّفت.. محمود ما ماتش، أنا شايفاه واقف قدّامي".
ظهور الأم مثّل لي صدمة مؤلمة ومبهجة في آن، فها هو درويش يفاجئنا بأمه، القصيدة العفية التي كبرت ولم تشخ، محمولة على محفة. نعم، لكن صوتها المسكون بالزيتون قادر على حمل شعب بأكمله.
ظهور الأم فكّ شفرة العديد من الأسئلة التي كانت تدور برأسي حول فنيات قصيدة درويش المنسابة كدمع الحنين، فمن أجمل ما قرأت وسط عشرات الصحف المحبرة التي امتلأت بالسحافات والادعاءات، كان حوار "الأم" الست حورية –ويا له من اسم يرتبط في وعينا الشعبي بالبكارة الدائمة- مع الصحفية صابرين دياب والذي نشرته جريدة العربي القاهرية (لم تعد موجودة الآن)، فكانت الأم قوية بما فيه الكفاية لتتحدث عن "الغالي". من هذا الحوار اكتشفت أن محمود كان ينادي أمه قائلًا "يامّا"، فلم يغيّر في لهجته منفى، ولم تؤثّر في قرويته مدينة، وكانت هي تناديه بـ "الغالي". ولا عجب أن تكون أم الشاعر الأجمل هي الأخرى شاعرة مفوهة، فحينما سألتها المحاورة عن آخر مرة قابلت فيها "الغالي" قالت مرتجلة: "مين صبّرك يا أمّا ومين أساك الصبر/ ومين صبرك يا أما تنزلوني القبر/ وقولوا لأمي الله يصبّرها/ وعلى فرقتي ما أقوى جبايرها/ قولوا لأمي ما تقولوا لغيرها بالفلفل المطحون تكحل عينيها/ يا شاب يا محمود يا زهر قرنفل ملات إيدي/ يا طعام للعيش يا خلفة الأجاويد/ ندر عليا إن أجاك العمر يا سيدي/ لأصيح شوباش وألحقها بالزغاريد".
وحينما سألتها عن شعورها في آخر زيارة انفجرت بالإنشاد: "نزل دمعي على خدّي وحرقني/ مثل الزيت على النار حرقني/ أنا أبكي على ابني يا اللي فارقني/ فارقني بليل ما ودّع حدا". وبهذه الردود الضاربة في عمق تاريخية الشخصية الفلسطينية والاسترسال الشعري العفوي وتلك الصور البسيطة التركيب والعميقة التأثير، عرفت كيف كانت قصيدة درويش خضراء متجددة دائمًا. وحينما استرسلت الأم وتحدثت عن نضال محمود الطفل ضد مغتصبي أرضه، قالت: "كان ينتظر مرور السيارات العسكرية، ليقذفها بما امتلكته يداه، مرة كان يجمع نوى المشمش، ومرة كان يجمع قرون الخرّوب". أي سذاجة وأي رقة يحملها قلب هذا الشاعر الطفل، أحاول أن أتخيل تلك البذور التي يرمي بها جنود الاحتلال بعدما أصابت أو -أخطأتهم- تقع على الأرض فتنبت وتزهر.
ظهور الأم فكّ شفرة العديد من الأسئلة حول فنيات قصيدة درويش المنسابة كدمع الحنين
وفي حوار مع أحمد درويش الشقيق الأكبر لمحمود، نشرته جريدة أخبار الأدب عقب رحيل الشاعر، يتحدث أحمد عن والدته وشخصيتها القوية وحبّها الشديد لمحمود: "صحيح إن الوالدة كانت شخصيتها قوية وكنا نخافها جميعًا، وكانت الشخصية المركزية الموجودة في البيت، جميلة المنظر وقوية. وكان لدي محمود إحساس بأنها لا تحبه لقسوتها علينا جميعًا، ولكن العكس هو الصحيح. وكانت تحبه أكثر منا جميعًا بسبب طفولته في الغربة وقصائده والسجن وخروجه من البلاد وأخبار مرضه كوٌنت مكانة خاصة له عند أمي. وسبب آخر يجعلها تحبه أنه يشبه كثيرًا والدها، جدي، في عينيه، وشعره، وقوة شخصيته." وفي ردّه على سؤال تالٍ حول موهبتها االشعرية يقول الابن: "هي ليست شاعرة.. لكن كان عندها بديهة في المناسبات خاصة في الحزن كانت تبدع. وكنا نقول مرات أنها "تعتب شعرًا". حتى من كان يزورنا من الكتٌاب، من الأردن أو من الضفة، كانوا يقولون: عرفنا بمن تأثٌر محمود. تأثر بها. وعندما كانت تغنٌي للطفل الصغير في السرير كان يصغي إليها".
اقرأ/ي أيضًا: من شاعرٍ شاب إلى محمود درويش
"وأعشق عمري لأني إذا متّ أخجل من دمع أمي"، وظل محمود يعشق عمره 67 عامًا، لكن الشاعر لا يحب أن يمكث مع عشيق لا يعشقه، فعندما بدأت خيانات الجسد، فضّل الشاعر الموت على الحياة، معتذرًا لأمه التي قالت "الحمد لله الذي أراحني من حسرة الغالي عليّ"، وكأن تلك الطفلة العجوز ترى أنها أقوى من ابنها وكثر منه جَلَدًا وتحملًا، فخافت عليه من قسوة رحيلها، ولم تستكثر على نفسها "شرب النار" جرّاء غياب الغالي. لا عجب إذًا أن ترحل الأم هي الأخرى لتلحق بابنها الغالي بعد 6 شهور من وفاته، بعدما ظهرت إلى العالمين ولاحقتها الكاميرات في جنازته. كان لا بد للأسطورة أن تكتمل.
اقرأ/ي أيضًا: