الإعلام، تلك النعمة والنقمة في آن واحد، التي يسميها البعض السلطة الرابعة، إلا أنّ ترتيبها هذا يكاد يكون مجحفًا، كلما تقدم بنا الزمن وتطورت أدوات التواصل ووسائل نقل الأخبار تدريجيًا نحو ما هو أسرع وأنجع وأكثر انتشارًا.
من يأخذ اليوم مسافة للتأمل في ماكينات الإعلام والصحافة والواقفين وراءها، أفرادًا وجماعات من منظمات ودول ولوبيات، يخالها هي السلطة الأولى لا الرابعة، وذلك لطبيعتها المتحوّلة باستمرار مواكبة لروح العصر، في خطابها الذي يستهدف العقول مباشرة، على العكس من ماكينات السلطة السياسية التقليدية التي باتت إما موغلة في البيروقراطية البطيئة والمكبّلة، أو شعبوية رنانة لا تقول سوى أوهام فضفاضة ولا تسوّق أكثر أحلام لا تمت للواقع بصلة.
تبلورت فكرة السيطرة على الأمم من خلال قوة ناعمة، تتمثل في تسخير الإعلام وصناعة البروباغاندا، منذ ما عرف بالحرب الباردة
تبلورت فكرة السيطرة على الأمم من خلال قوة ناعمة، تتمثل في تسخير الإعلام وصناعة البروباغاندا، منذ ما عرف بالحرب الباردة، حيث وصل صناع القرار ومنظرو السياسات الغربية إلى أن الحروب العسكرية التقليدية، على طريقة الغزو والإنزال، لم تعد ممكنة في ظل الانتشار النووي الذي بات يهدد الوجود البشري على الارض، فكان أن جاء شعار "لنذهب إلى عقولهم هذه المرة"، ليحل الغزو الأيديولوجي محل الغزو الجغرافي الذي يكلف أموالًا طائلة وخسائر بشرية في صفوف الجنود، ولم يكن تداعي المعسكر الشرقي آنذاك وتسلل الشك والتصدع الداخلي للاتحاد السوفييتي، ثم انهياره بالكامل، إلا خير دليل على نجاعة تلك القوة الناعمة التي تسعى إلى تسريب الأفكار والأيديولوجيات وبثها في صفوف الآخر، سواء كان سياسيًا أو ثقافيًا، لتركيعه وخلق الانقسامات وتغذية الخلافات الهوية وتضخيمها، وهوما يفسر لجوء الدول الصاعدة التي برزت إبان تلك الفترة إلى عزل نفسها بصفة راديكالية إعلاميًّا ومعلوماتيًّا، من خلال مقاطعة ومنع التعامل مع وسائل التواصل الغربية الأمريكو-أوروبية، كما هو الحال مع كوريا الشمالية، أومن خلال العمل على ابتكار بدائل محلّية ونظائر لتلك الأدوات التي تعتمدها حركة ما يعرف بالعولمة، كما في حالة الصين الشعبية أو جمهورية إيران.
اقرأ/ي أيضًا: أمبرتو إيكو.. عن الكتب التي لا نقرؤها
في آخر عمل له قبل رحيله، ترك لنا الفيلسوف والروائي الإيطالي الشهير أمبرتو إيكو عملًا غاية في الأهمية والفرادة، وهو رواية صغيرة الحجم عنوانها "العدد صفر"، حيث بإمكاننا أن نعتبرها بمثابة وصية لقرّاءه، نظرًا لقيمتها من ناحية المضمون، إذ تطرّق إلى نعمة الإعلام التي صيّرها الإنسان نقمة وخطرًا محدقًا بالبشرية بسبب طغيان الأوهام على الحقيقة وانتشار الزيف والمغالطة، حيث أصبح مفهوم الحقيقة أكثر هشاشة من أي وقت مضى وصارت الأكاذيب والإشاعات تحدد مصائر الأمم وطريقة تفكيرهم، وهوما عبر عنه تشرشل بقوله "الشائعة ستدور العالم بأسره بينما لا تزال الحقيقة ترتدي ملابسها".
تخضع هذه الرواية إلى نفس منطق إيكو الذي عمل عليه في مشروعه الروائي منذ "اسم الوردة"، وهو منطق إعادة النظر؛ إعادة النظر في المسلمات الأخلاقية والحقائق التاريخية، والقناعات الفردية والعامة، حول من يحكم العالم ويتحكّم في أسواق السلع والأفكار، ومن يلعب الدور الأكبر في تشكيل الهويات والنظم الأخلاقية والأذواق.
وإن كان هذا العمل الأخير لم يحض بالاهتمام الذي يستحقه من النقاد والقراء، إذ حجبته ظلال أعماله الأخرى الأكثر شهرة، والتي باعت ملايين النسخ حول العالم، وفي مقدمتها "اسم الوردة" و"بنادول فوكو" و"مقبرة براغ"، إلا أن موضوع صناعة البروباغندا والتلاعب بعقول مستهلكي المادة الإعلامية بالطريقة الفذة التي طّرحه بها إيكو في "العدد صفر" يكاد يكون أكثر أهمية في عصرنا هذا المسمّى عصر "مجتمع المعلومات"، من أجواء الدسائس والمؤامرات بين المنظمات الدينية والأخويات الماسونية التي تناولها في أعماله السابقة، رغم أن تلك الثيمات لم تغب عن هذه الرواية الأخيرة.
النصّ آلة كسولة
في المحاضرة التي ألقاها في جامعة هارفرد سنة 1993، المعنونة بـ "6 نزهات في غابة السرد"، سعى أمبرتو إيكو للتأكيد بأن أعماله لا يجب أن تقرأ كحكايات تتكون من مجموعة من أحداث تسير بالعمل نحو نهاية تكون هي الحل للعقد بعد تأزمها، والتجلي للمعاني بعد تكثيفها وغموضها، إذ يصف النص، أي نص بالآلة الكسولة التي لا تبوح بكل مكنوناتها بسرعة وتلهّف، وإنما تحتاج إلى معاضدة مخيلة القارئ وذائقته، من أجل توليد دلالات تكاد تكون لانهائية، وهو يدعونا، بل يجبرنا أسلوبه في الكتابة الإبداعية، أن ننتهج طريقته التأويلية من خلال القراءات المتعددة للعمل، الذي لا يمكن أن يكشف لنا كنوزه من خلال قراءة سطحية تلهث وراء نقطة النهاية والانفراج.
قبل رحيله، ترك لنا أمبرتو إيكو عملًا غاية في الأهمية والفرادة، وهو رواية صغيرة عنوانها "العدد صفر"
وبالفعل فإنك عندما تعيد قراءة الواحد من أعماله قراءة ثانية فثالثة تجدها في كل مرة تتحدث عن موضوع، وتتناول قضية مختلفة عن تلك التي خلتها هي محور العمل خلال قراءتك الأولى، وكأن الرواية التي يكتبها إيكو تطفح بالدلالات والتفرّعات التي تساهم بنسبة متساوية في تكوين ولادة النص، حيث بالإمكان اعتبار كل واحد منها هو المحور الرئيسي للعمل والباقي مجرد دعائم، وذلك حسب الزاوية التي يختارها القارئ أو الناقد لولوج النص.
اقرأ/ي أيضًا: أمبرتو إيكو وتجديد روح المثقف
على القارئ لأعمال إيكو أن يتجنب دائمًا تناولها من جانبها المضموني البحت، دون النبش في أسلوبية العمل بطريقة أركيولوجية من شأنها أن تكشف له عن نفائس سردية وفكرية لكاتب يتعامل بجدية كبرى مع ما يكتب، خاصة من خلال البحوث الميدانية والاطلاع على المراجع التاريخية، رغم تصريحه مرات عديدة أنه يعتبر نفسه مبتدئًا في فن الرواية، إذ بدأها في سنّ متقدمة، بعد مسيرة طويلة في تأليف الكتب البحثية في الفلسفة والنقد والجماليات.
لكن الجمالية البنيوية لهذا النص الذي بين أيدينا، والدلالات السيميائية المحتملة له، لا تمنعنا من الوقوف عند واحدة من الثيمات الأكثر حضورًا في أعمال إيكو الروائية، وهي المؤامرات الغامضة والعوالم الملغزة للمنظمات السرّية، والتي يتلاعب بنا الكاتب في ما يخص موقفه ورؤيته الخاصة لها، فتراه يغيّر تموْقعه في التعامل مع نفس القضيّة من عمل الى آخر، وأحيانًا داخل العمل الواحد.
في "اسم الوردة" مثلًا، يذهب إيكو إلى دحض أصالة وثيقة "بروتوكولات حكماء صهيون" الشهيرة، التي يقال إنها توثّق اجتماعات دورية لرؤساء القبائل اليهودية في العالم، نهاية كل قرن من الزمان، لمواصلة التخطيط من أجل التحكم في العالم، ويبين أنها وثيقة ملفقة، إلا أنه في مقابل ذلك ينفخ الروح في مؤامرات ودسائس وأساطير أخرى، يكاد من خلال أسلوبه الموغل في التفاصيل المكانية والتواريخ أن يجعل منها في ذهن القارئ ما يشبه حقائق تاريخية مفروغ منها.
فكرة رواية "العدد صفر" تتمثل في جريدة يبعثها رجل أعمال فاسد لأغراض استفزازية ووصولية أكثر من أي شيء آخر، تحمل الجريدة اسم "الغد" لكنها لا تصدر أبدًا، وبعبارة أخرى هي جريدة مجهضة منذ البداية، مهمتها التلاعب بعقول الجماهير وتزييف الحقائق، تصل في أحيان كثيرة إلى "صنع" حقائق خاصة بها، دائمًا حسب ما يتلاءم ومصالح البارون الذي يمولها وشبكات علاقاته السياسية والاقتصادية والاجرامية.
فكرة إيكو في رواية "العدد صفر" تتمثل في جريدة يبعثها رجل أعمال فاسد لأغراض استفزازية ووصولية أكثر من أي شيء آخر
يتكوّن فريق التحرير من مجموعة من الصحفيين المحبطين، حظوا بتجارب سابقة فاشلة، ما خوّلهم الالتحاق بالجريدة المشبوهة دونما أي شعور بالذنب أو تأنيب الضمير المهني.
اقرأ/ي أيضًا: أمبرتو إيكو.. تاريخ القبح أم تأريخ لسلطة الغرائبية؟
تصدر الأعداد التجريبية من صحيفة الغد (الأعداد صفر) بعد أن تكون الأحداث الفعلية قد حدثت في البلاد (إيطاليا) والعالم، إلا أن التلاعب بتواريخ الصدور، يجعل من يعود في وقت ما لاحق لأرشيف الجريدة، يفاجأ بأنها قد تنبأت، أو حذرت من تلك الوقائع مسبقًا. وبين يوميات العمل في الجريدة والنقاشات والسجالات التي تحدث بين الفريق، والتي كُلّف البطل بتدوينها، يمعن إيكو في تسليط الضوء على الأساليب الدّعائية وآلياتها الدّقيقة في التّأثير على سيكولوجيا المتلقّي، وكيف ينجح هؤلاء دائمًا في اقناع الجمهور بالأوهام وصرف أنظارهم عن الحقائق الساطعة، إن هي لم تكن تخدم منظومة الدعم الاقتصادي والمصالح المشتركة لصنّاع القرار وصنّاع الأخبار.
أيكو ونظرية المؤامرة، دائما!
تأتي حادثة مقتل رومانو برغادوتشيو، أحد أعضاء فريق الجريدة، قبيْل نهاية الرواية لتنسف الاتجاه العام للأحداث، كما تأخذ القارئ عنوة لكي يعيد النظر في موقع الكاتب، وموقفه من الهوس Paranoia بنظريات المؤامرة.
يقدّم لنا إيكو الصحفي الهالك طوال الرواية كشخص هستيري ومضطرب، شديد الشك والتنقيب في أتفه الأمور، بل يظهر لنا أحيانا كشخص ممسوس، إذ يفرد له مثلًا أكثر من 5 صفحات يتناقش فيها مع كولونا، الصحفي الراوي، عن نوع السيارة التي ينوي شراءها، ذاكرًا بذلك قائمة طويلة ومضنية من الخيارات التي بحث برغادوتشيو فيها وقلبها على جميع وجوهها، دون أن يتمكن بالخروج بقرار واضح في النهاية، وبنفس الكيفية المشتتة وغير الواثقة يتعامل مع أغلب شؤون حياته.
السبيل نفسه ينتهجه صاحبنا حينما يقرر إجراء بحث استقصائي يفترض أن موسوليني لا يزال حيًّا، وأن أيادي خفية شديدة النفوذ لها ارتباطات بمؤسسات دينية هي التي هرّبته ونصّبت مكانه شبيهًا له، وهو الذي تم إعدامه مكان الطاغية الفاشي الحقيقي.
تكمن أهمية مشروع إيكو في استغلال عدم الاقتناع الكامل بالنسخة المتفق عليها للتاريخ
اقرأ/ي أيضًا: مدونة أمبرتو إيكو.. حدود المعرفة وفضاء الخيال
بعد أن يغرق الكاتب شخصية الصحفي الاستقصائي بتفاصيل شديدة التعقيد عن الأيام الأخيرة لكل من موسوليني الحقيقي والمزيّف، يأتي في الأخير، عندما يسرّ برغادشينو إلى كولونا أنه بات قاب قوسين من وضع يده على الحجة الدامغة على صحة زعمه، عندها يباغتنا إيكو فيعلن مقتله على يد مجهولين، جاعلًا القارئ يعيد النظر جيّدًا في ما ظنّه أول الأمر مبالغات وشطحات خيالية للصحفي المهووس بالمؤامرات.
نقيض الشك السلبي
هنالك إيمان مشترك لكنه ضمني وغير معلن بين البشر في العالم المعاصر، وهو أن ما يصلنا ن أخبار، وبالتالي من تاريخ مدوّن، ليس إلا واجهة لما حصل بالفعل، أو كما قال نابوليون إن التاريخ هو مجموعة من الأكاذيب المتفق عليها.
لكننا رغم علمنا بنسبية ما يُنقل لنا مما يحصل حولنا، لا نملك في المقابل أي بدائل معرفية تمكننا من تقويض البروباغندا التي تتكون من أفكار وأخبار تقدّم لنا على أنها الوجه الأوحد للحقيقة. فنحن إذ نشكك مثلًا في صحة انتحار هتلر، أوفي حقيقة مقتل بن لادن وإلقاء جثته في البحر، أو في مدى وعي صدام حسين لدى القبض عليه، لا نملك حيال ذلك سوى إظهار ريبة وتشكيك سلبييْن.
ما يصلنا من أخبار، وبالتالي من تاريخ مدوّن، ليس إلا واجهة لما حصل بالفعل
هنا تظهر الأهمية الفائقة لمشروع إيكو الروائي، وأي مشروع إبداعي مماثل، حيث تتمثل في استغلال عدم الاقتناع الكامل (المشترك وغير المعلن) بالنسخة المتفق عليها للتاريخ، والتي تفتح أبوابًا لا حصر لها للتأويل ولتخيّل احتمالات بديلة للجدث التاريخي كما حصل فعلًا.
اقرأ/ي أيضًا: غير دانتي وأمبرتو إيكو.. 5 كتاب إيطاليين يجدر بك القراءة لهم
تكمن عبقرية إيكو وخطورته في قدرته على تناول أحد هذه الاحتمالات اللانهائية والعمل والبناء عليها ـ بصبر وصنعة كبيرين ـ فنراه يأبى أن يتركها إلا وقد صارت أكثر واقعية وكثافة وقابلية للتسويق والإقناع بصحة حدوثها، من أي صيغة أو نسخة قد تنتجها أكثر أجهزة الإعلام والبروباغندا تأثيرًا وقدرة على الدمغجة، ولعله باستخدامه سلاحًا بسيطًا وخطيرًا في آن، يتمكن من تحقيق ما فشلت فيه عديد التحرّكات والنضالات المناهضة لصناعة البروباغندا، مثل حركات العولمة المضادة التي كان من روّادها عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو وطلبته، الذين ظلت مجهوداتهم من تأليف للكتب وتنظيم للمظاهرات وبعث للمؤسسات التوعوية معزولة ومحدودة الانتشار، أمام زحف للماكينة المتوحشة لرأس المال والإعلام المتحالف معه، من أجل نشر كل ما يمثل الخطاب والتاريخ والثقافة الرسمية غير القابلة لأي بدائل.
اقرأ/ي أيضًا: