كيف يمكن تأويل "الحلم" السوري؟ لن يُبَالِغَ المرء في القول: إنَّ الانتفاضة السورية إذ تدمغُ تاريخ الفضاء الإقليمي بتوقيعها الذي يتباين عن أيِّ تواقيع أخرى؛ فإنها تنقذ التاريخ من عطالة متقصّدة مضى في صمتها زهاء نصف قرنٍ، أو لنقلْ بتعبيرٍ آخر: إنّها صدَعت وتُصدِّعُ المشهدَ بـ"حدثٍ مفصليٍّ"، لتكون أشبهَ بطيةٍ، أو علامة تـُبَاينُ "المابعد" عن "الماقبل"؛ هذا الثراء المعنوي الذي وهبته هذه الانعطافة وَتَهَبَهُ للتاريخ؛ بل هذا التَّحدي المريع للطغيان هو الذي ميّز ويميّزُ هديرَ "حلم" السوريين عن سواه مما جرى من أحداث وأحلام للشعوب في فضائنا الإقليمي في راهن ما مرّ من زمن قريب.
التَّحدي المريع للطغيان هو الذي ميّز ويميّزُ هديرَ "حلم" السوريين عن سواه من أحداث وأحلام للشعوب
ولئن حاول المرء مَفْهَمَةَ هذا الاحتشاد المعبِّر عن "حرية مفقودة" طوال أربعة عقود من استبدادٍ مفتوحٍٍ على همجيةٍ منقطعةٍ النظير؛ فإنَّ لا مفهومَ يتفوّق على "الاختلاف/Difference" في تجسيد هذا الحراك وتأويله؛ من حيث إنَّ "الاختلافَ" شرطُ إمكانٍٍ للانتقال من التماثل إلى التغيير، ومن التشاكل إلى التباين.
ولذلك؛ فإنَّ المضيَّ قدمًا في التحليل سيبعدنا بالضرورة عن الحقل الاصطلاحيٍّ الاجتماعي الرّث الذي يتّخذ من الفكر الماركسي برؤيةٍ تقليديةٍ فضاءً له. وفي الوقت ذاته سيقرِّبنا من فلسفة التباين والمغايرة. ومن هنا تقودنا اللغة الجديدة إلى تضاريس دلالية تتميز بالثراء والغنى تدشّنها مقولة "الاختلاف"؛ حيث يشرف الاختلاف على دلالات: البوْن؛ التباعد؛ التباين؛ التغاير؛ التفاوت؛ الخصومة؛ الخلاف؛ الفرق؛ النزاع....إلخ.
وهذه الدلالات تتكثَّف لتؤسِّس بنية "تَكْتُوْنِيَّة" تمنح الانتفاضة السورية خاصية التضاد المطلق في مواجهة عطالة التاريخ والاستقرار-الموات الذي مثّلته سلطة استبدادية وقوى "لاـ تاريخية" حيث تستمد هذه السلطة منها أسباب الاستمرار، وهكذا تتقدَّم في مواجهة الاختلاف دلالاتٌ مضادةٌ: الاتفاق؛ الانسجام؛ الامتثال؛ التجانس؛ التطابق؛ التشابه؛ التقارب؛... إلخ.
ومن هنا تلخّص الثورة السورية صراعًا مضطرمًا بين "فاعل تاريخي" وقوى تنتسب إلى "خارج التاريخ"؛ وإذ أستخدم مصطلح "الفاعل التاريخي" فلكي أدلِّل على عجز المقاربة الماركسية التقليدية عن اصطياد "الهدير السوري" سوى أنه ينزلق إلى اصطفاف القوى الإمبريالية العالمية؛ لكن أصحاب هذه المقاربات الممجوجة ـالتي تفتك بها العطالة الرؤيوية ورثاثة التحليلـ هم أولئك الذين فاتهم أن "الهدير السوري" يتجاوز مفهوم "الصراع الطبقي" -الذي غدا من نفايات الحداثةـ إلى مفهوم "الكتلة البشرية" التي تتطلع إلى إحداث نقلةٍ مجتمعيةٍ إلى فضاء "الحرية" كعلامة على الخروج من "مضيق الأبد الأسدي" الذي حُشِرَ فيه السوريون طوال نصف قرن من حكم يستمدُّ نسغه من طائفية مقيتة وأكاذيب "الممانعة والمقاومة" التي كان الماركسيون ينتشون بها لإخفاء تلاشي قدرتهم على (الفعل السياسي)، ومن ثمَّ خياناتهم للشعب وخنوعهم للسلطة الاستبدادية.
تلخّص الثورة السورية صراعًا مضطرمًا بين "فاعل تاريخي" وقوى تنتسب إلى "خارج التاريخ"
وإزاء عجز المقاربات الماركسية التقليدية عن اكتناه "الاختلاف" الذي يحرّك تضاريس الحراك السورية لم يكن أمامها سوى أن تنهار في صمت انغلاقٍ ميتافيزيقي على نفسها أو تكرار المعزوفات المشروخة التي سئمها السوريون: الإمبريالية، الصهيونية، الصراع الطبقي...إلخ. أو الوقوف مع السلطة التي استباحت كينونة السوريين بالدمار والخراب والجرائم مدفوعةً بحقد يصرخ ويتعالى من دهاليز تاريخ طائفيٍّ متعفن.
إن "التجاوز" أو "التباعد" يدفع بقوةٍ الصفيحة التكتونية لـ"الاختلاف"؛ ذلك أنَّ الحراك السوري بوصفه "فاعلًا تاريخيًا" يرمي إلى تجاوز "فضاء-الموات-الخنوع-الامتثال" إلى فضاء التغاير والتباعد عما كان ويكون راهنًا عبر تقويض حالة "التطابق" التي خيَّمت على سوريا، وميّزت فضاءها؛ فمن أولى دروس الاستبداد الشمولي فرض التشاكل المقيت على الفضاء "السوسيو-الثقافي-الجغرافي" وجعله نسخًا متماثلة ومتشاكلة، وهذا كان شأن (الأب) ومن بعده (الابن) في تكريس التماثل الخانع والدفع بالسوريين إلى حالةٍ من "التصميت" المريع!
اقرأ/ي أيضًا: