لا يُمكن أن تمنح عينيك فرصة النظر إلى شارع ما في بغداد دون أن ترى لافتة "الشهيد السعيد الشاب....الذي استشهد بتفجير سيارة مفخخة، أو أثناء المعارك التي تستعر نارها في المناطق الغربية والشمالية من العراق".
تلك المدينة التي تبدو باهتة الألوان، خالية من الورد، مفعمة برائحة البارود، مُحاطة بالتراب، ما زالت آثار أقدام الأميركيين والجماعات الإرهابية مطبوعة على شوارعها. المغول يرفضون أن تُغادر الخراب، فم الموت مفتوح فيها. هي الأخرى كحفرة لا يُمكن الخروج منها بسهولة. تحتضن الجميع وتستغنى عنهم في لحظة مفاجئة.
الموت الذي يُرافق البشر ليس بذات الطريقة يُرافق العراقيين. مفخخة، عبوة ناسفة، إنتحاري، كوليرا، قناص، كاتم الصوت. هذه مُلحقات يأتي بها إذا ما أراد أن يعزل عزيز عن أهله. لا يُمكنه المجيء وحده. نعم. الموت هو الآخر يخشى على نفسه، فيستعين بتلك الأدوات.
عشرات النعوات تعلّق يوميًا في بغداد
في بغداد صورعلى جُدران المدينة. الصور والجُدران مفروضتان على الناس. عفوًا ليس للمدينة جُدران. هي صبات كونكريتية، كُتبت عليها دعايات تجارية، وعناوين استدلال لبعض الأماكن المهمة. وتُعلق عليها يوميًا العشرات من لافتات النعي لأموات قضوا في الحرب.
ليست هذه الصور واللافتات جديدة. كانت السنوات التي أعقبت الحرب الأميركية في العراق مطرزة بهذه اللافتات. ازداد وجودها خلال السنوات التي اندلعت فيها الحرب في سوريا عندما ذهب عدد من المقاتلين للقتال هناك "دفاعًا عن المراقد المقدسة". هؤلاء المقاتلون الفقراء، يقتلون في حربٍ ليست حربهم.
إقرأ/ي أيضًا: 9 ملايين عراقي تحت خط الفقر
لبغداد تاريخ طويل مع الموت الجماعي. ففي الحرب العراقية – الإيرانية كانت أيضًا متحفاً للموت، لكنه كان متنقلًا. لا يمكنك أن تعرف الميت دون وجود علم عراقي يلف تابوته. لم تنتشر الصور آنذاك بهذا الشكل الكبير، فلا توجد مطابع حديثة مثل الموجودة الآن، ولا هناك إمكانية لتعليق الصور في الشارع. أما الآن فيمكن القول بأن كل شيء متوافر في هذا المتحف لنصب الصور.
الآن في شوارع بغداد آلاف صور القتلى وأغلبهم من الشباب
وجدت أغلب عوائل القتلى طريقتها لإبقاء ذكرى طويلة لأبنائهم. الطريقة التي لم تكن رسمية انتشرت في بغداد، فبدأت العوائل تطلق على الشوارع والمتنزهات والملاعب أسماء أبنائها، لكن تلك التسميات لا يُعتد بها، ففي الشارع الواحد أكثر من قتيل، فباسم من يُسمى؟ الموتى أكثر من الشوارع.
مع بداية الأشهر الأولى من عام 2003 لم يكتف ذوو القتيل بتعليق لافتة سوداء يُكتب عليها بالخط الأصفر، وهي قطعة قماش تُدق في بداية الحي الذي يسكنه ويُكتب فيها سبب الموت إذا كان غير الموت الطبيعي، وفي منتصفها يُكتب عنوان مجلس العزاء.
الآن. في شوارع بغداد آلاف صور القتلى. أغلبهم من الشباب. فمثل أية قوة عسكرية، تُصور الفصائل المسلحة التي تقاتل بجانب القوات الأمنية العراقية مقاتليها بالزي العسكري قبل الذهاب إلى الحرب. ستحتاجها فيما بعد. عندما تدخل كل مدينة في بغداد، خاصة مدن الصدر والحرية والشعلة والبياع، فإنك لن تلحق قراءة جميع اللافتات، رغم توقفك الطويل في طابور السيطرات الموجودة هناك. طابور الموت.
تلك المدينة التي تبدو باهتة الألوان خالية من الورد ومفعمة برائحة البارود
أما في ساحة النسور القريبة من حي الحارثية الراقي حيث مقر القيادة المركزية للشرطة الاتحادية، فثمة جدار طويل قد يصل طوله إلى كيلو متر تقريبًا، علقت عليه صور المقاتلين، بالأسماء والتواريخ وأسباب الموت. هذا الجدار نفسه كان العراقيون يمنون أنفسهم بالوقوف عنده لنصف دقيقة قبل 2003، لمعرفة ماذا بداخله. كان قصرًا من قصور صدام حسين.
كانت لافتات الموت قبل أن يكون للإرهاب مكان في العراق، تبقى طويلًا ويتلفها التُراب الذي يتميز به العراق وحرارة الشمس. الآن لا توجد لافتة تنتهي صلاحيتها، ففوق كل لافتة تُعلق أخرى، بذات الوضوح والألوان، فحرارة الشمس لن تصل. ثمة لافتة قتيل آخر تحفظها. لافتة فوق لافتة، ضحية فوق أخرى.
إقرأ/ي أيضًا: سياسيو العراق.. سوف نضحك