لم يصدر عن الولايات المتحدة بيانًا واحدًا يدين مذابح حلب حتى السابع والعشرين من نيسان/أبريل، بعد هذا اليوم صدرت بضعة بيانات "ممغمغة ضبابية". يخرج علينا أولًا نائب المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية مارك تونر في تصريح يدين الهجمات التي استهدفت مركز الدفاع المدني في بلدة الأتارب بحلب، يعلن فيه أن بلاده تشعر "بالفزع إزاء الضربات الجوية المتعددة" على هذا المركز، ويخصص بيانه لإدانة "النمط البغيض" لنظام الأسد في استهداف المسعفين، الذين يقومون بمهام البحث والإنقاذ في أعقاب الهجمات الوحشية، التي غالبًا ما ترتكب من قبل نظام الأسد وحلفائه.
أمريكا لن توقف النظام وروسيا عن الإجرام، بل تريد من الشعب السوري والفصائل الثورية أن ينأوا بأنفسهم عن الإرهابيين
في اليوم التالي، صدر بيان عن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري حول الهجوم على مستشفى القدس في حلب، قال فيه إن الضربات الجوية التي استهدفت المستشفى "أثارت غضبنا الشديد"، وأن آخر الأعمال الهجومية التي قام بها النظام هناك – على الرغم من وقف الأعمال العدائية – تضاعف العنف وتقوض وقف الأعمال العدائية.
اقرأ/ي أيضًا: أبو شاور وأبو خالد.. في القصر الجمهوري
لكن "البيان التوضيحي" لموقف الولايات المتحدة الذي كشف سر هذا الصمت الأمريكي المريب تجاه ما يجري في حلب كان بيان المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، والخبير بالشؤون الإسرائيلية، مايكل راتني الذي شغل سابقًا منصب القنصل الأمريكي العام في القدس المحتلة من 29 تموز/يوليو 2012 حتى الـ28 من تموز/يوليو 2015 يوم نقله لإدارة الملف السوري. من خلاله عرفنا فيه أن أمريكا لن توقف النظام وروسيا عن مهمتهما التدميرية في حلب فعلى حد قول راتني: على الشعب السوري والفصائل الثورية أن ينأوا بأنفسهم عن الإرهابيين "جبهة النصرة"، ليتسنى لامريكا الدفاع عن هدنة "وقف إطلاق النار" وتخفيف معاناة الشعب السوري.
يضاف إلى تلك الصدمة انخراط أمريكا حتى النخاع في معركة حلب مع روسيا ونظام الأسد، بل إن أمريكا اليوم تتبنى الأفكار ذاتها التي قالها بشار الأسد قبل أن تخلق جبهة النصرة وداعش بحذافيرها، تحديدًا عندما كان الأسد يتحدث عن "البيئة الحاضنة" للإرهاب، وما يقوله المبعوث الأمريكي راتني لا يخفى على أحد، فهو يتحدث عن الإرهاب متمثلًا بجبهة النصرة الإرهابية التي اندست في أحياء حلب بين المدنيين، وبدلًا من أن يدين استخدام النصرة للمدنيين كدروع بشرية، ويعمل بصفته قائدًا عامًا للجيش العالمي المحارب للإرهاب على إيجاد الخطط التي تمكن المدنيين من طردهم، وتجعلهم قادرين على إسقاط القناع عن السياسة التي اتبعها هذا التنظيم السرطاني في كسبه لود الناس، عبر تأمين حاجياتهم والدفاع عنهم، بعد أن تخلى عنهم العالم بأجمعه وجعلهم فريسة سهلة بين مخالبه النصرة وداعش؛ نجده يطالب المدنيين بالابتعاد عنهم، متعاميًا عن الوجهة التي سيلجأ إليها هؤلاء المساكين مع أطفالهم بعد أن أغلق الرئيس التركي أردوغان حدوده في وجههم.
لنتذكر أن بشار الأسد في مثل هذه الأيام، تحديدًا في 23 نيسان/أبريل 2014، وياللصدفة العجيبة! تحدث في كلمته الشهيرة أمام علماء الدين والداعيات عن البيئة الحاضنة قائلًا "عندما نتحدث عن عشرات آلاف الإرهابيين السوريين فهذا يعني أنه خلف هؤلاء حاضنة اجتماعية، هناك عائلة، هناك قريب وجار وصديق وأشخاص آخرون، يعني نحن نتحدث عن مئات الآلاف، وربما الملايين من السوريين، ولو كان مليونًا نقول ملايين".
اقرأ/ي أيضًا: الصمت الذي يليق بحلب
ولنتذكر أنه من أهم مبرراته لقصف المدنيين وحرب الدمار الشامل التي يقودها في سوريا هي حجة "وجود الإرهابيين" فيها، وأن عمله ليس ضد المدنيين بل ضد هؤلاء الدخلاء، وأن على المدنيين طردهم، وهي ذات الذريعة الأمريكية التي تكشفت مؤخرًا وبحذافيرها، فالصمت الأمريكي لا يبرره سوى أن الاتفاق الروسي الأمريكي الذي لم يشمل حلب هو إعلان الحرب لتدمير حلب واستباحة حرمة المدنيين، والحجة هي ذاتها القضاء على "البيئة الحاضنة" للإرهاب بصواريخ الطائرات.
من أهم مبررات الأسد في قصف المدنيين وحرب الدمار الشامل التي يقودها في سوريا هي حجة "وجود الإرهابيين"
في حلب، أعلنت الإدراة الأمريكية انخراطها في الحرب على "الإرهاب" مع روسيا والنظام السوري، بعيدًا عن المراوغة المعتادة، وأضحى جليًا أن "خطط الدمار الشامل" التي تقودها أمريكيا في سوريا هي عبارة عن مسلسل مدروس اعتمده النظام منذ يوم الثورة الأول: تعطي أمريكا الضوء الأخضر بعد أن يكتمل اندساس غربان الموت المتمثلة بجماعة النصرة وداعش المجرمتين بين المدنيين (سابقًا كان يسميهم النظام المندسين)، تخطط روسيا عسكريًا لتحقيق أكبر قدر من الموت والإجرام والتدمير، يبدأ نظام الأسد مجزرته، يدخل أردوغان في سُبات حتى تكتمل المجزرة. نبكي.. تتمزق قلوبنا عجزًا على مشاهد الموت الرهيبة، نطلق حملات "أنقذوا حلب" كما أطلقنا من قبل "أنقذوا حمص" وغيرها.. وأنقذونا.. تنتهي المجزرة.. نقف على الأطلال نرثي أطفالنا "بأي ذنب قتلوا"، تبدأ تصريحات التنديد بأشد العبارات وعبارات الاستنكار والقلق الأممي.. أوباما الذي أصبحت أيامه معدودة يعوي بموقف أمريكا المصر على ضرورة انتقال "سلمي" للسلطة بلا أسد.. أردوغان المنافق يستيقظ ويرغي ويزبد بتعزيز عسكره على الحدود، بوتين يتغنى بانتصاراته بالقضاء على أوكار الإرهابيين.. وأوروبا تزداد شللًا وغرقًا في أمنها وانشغالا بالقضاء "قانونيًا" على جحافل الهاربين من الموت. نقطة من أول السطر.
اقرأ/ي أيضًا: