اعتاد العالم أن يحتفي بليلة رأس السنة، يغنون ويرقصون، يشربون نخب السعادة، يبثون للسماء فرحتهم، يمنحون الأمنيات فرصةً ومساحةً أوسع عسى أن يتحقق ولو جزء يسير منها في العام الجديد. بينما الكادحون الفلسطينيون في قطاع غزة يمكنهم فقط أن يتابعوا العالم عبر شاشة تلفاز، إذا مكنهم التيار الكهربائي أصلًا من ذلك، فقد يصفقون وربما يبكون سخطًا على الحصار، على أي حال هم ينامون ليلتهم الكئيبة كأن السنة الجديدة لا تعنيهم ولا حاجة للاحتفاء بها ولا بأمنيات ولا بغيرها!
في ليلة رأس السنة، الكادحون الفلسطينيون في قطاع غزة يمكنهم فقط أن يتابعوا العالم عبر شاشة تلفاز، إذا مكنهم التيار الكهربائي أصلًا من ذلك
وقد يقول قائل: ما هذه الرتابة في العيش؟، والإجابة الطبيعية من الممكن أن نسرقها من على لسان سائق أجرة يتجول في ساعات الليل الأولى دون أن يحظى براكب على الأقل، وهو يرد على أم كلثوم في مقطوعتها "وصفوا لي الصبر لقيته خيال" بتهكم وموجة ضحك هستيرية: "أكلنا الصبر وأشواكه، وما عاد لنا طاقة على احتمال المزيد!".
وما بين "وصفوا لي الصبر" و"للصبر حدود"، تجد أن مركبة صديقنا السائق ما عاد أيضًا لها قدرة على بذل مزيدٍ من الكد في شوارع غزة الوعرة، بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على صناعتها دون قدرة من سائقها على استبدالها بأخرى حديثة فالضريبة المفروضة على استيراد السيارات (25%) لا تعطي فرصة للكادحين لامتلاك "موديلات" متقدمة!
وبالمناسبة، هذا الرجل البائس يمثل حالة الأغلبية في غزة، فنحن هنا لا تعنينا الأقلية، لأن هذه الطبقة (البرجوازية) تقضي جل أوقاتها في المطاعم والفنادق الفارهة وبمتوسط فاتورة قيمتها خمسون دولارًا، دون أن يكون هناك مناسبة تستحق زيارة هذه الأماكن، فما بالك لو كانت رأس السنة؟، أسوأ ما في الأمر، أنه إذا فكر أحد من الكادحين اصطحاب أسرته ليحاكي البرجوازية في إحياء ليلة كهذه، فالأمر يكاد يكون مستحيلًا أو متعذرًا، والأسباب عديدة.
أولاً، سيحتاج بعض أبنائه أو أحدهم أن ينتعل حذاءً جديدًا للمشاركة في هذه الأمسية، ومعنى ذلك أن الأب ستطاله لعنة الضريبة الجديدة المفروضة على كل حذاء، أي ما يعادل نصف دولار، ونصف على الحذاء ونصف على الفاكهة ونصف على الملابس ونصف على الدواء، يعطي للنصف قيمة كبرى، لا كما يظن البعض. وبالتالي سيعاد النظر في مسألة الاحتفاء!
أول العام لا يعدو كونه يوم في رزنامة غزة الرتيبة، خصوصًا وأن هذا القطاع وكادحيه أصبحوا خارج حسابات الزمن
ثانيًا، إذا لم تكن جميع الأماكن السياحية بما في ذلك المطاعم والصالات، محظورة من إقامة ليلة كهذه، فذلك لا يشمل فندقًا وحيدًا من خمس نجوم في غزة، وهو مخصص للبرجوازية، وعليه فستكون جميع المقاعد محجوزة سلفًا، وهنا فإن الكادح لن يجد مقعدًا.
ثالثًا، إذا فكر هذا الكادح بالاحتفاء بهذه الليلة في مكان عام بحضور أصدقائه وأسرهم، فمعنى ذلك أنه ربما يتعرض لمساءلة أمنية لدواعي عدم الحصول على إذن مسبق أو الإخلال بالأمن، أو في أسوأ الأحوال سينفث أحد رجال الأمن الملتحين دخان بغضه في وجه الكادح ويقول "أنت تبعث على الفجور".
وعليه، ستظل أيام الكادحين في غزة رمادية باهتة تشبه بعضها، وسط غياب للأفق، وفقدان الهدف وتشوش الرؤيا، خصوصًا أنهم باتوا رهائن سياسات ضيقة تحكمها مصالح الأشخاص والمؤسسات أكثر من مصالح الشعب. وبالتالي فأول العام لا يعدو كونه يوم في رزنامة غزة الرتيبة، خصوصًا وأن هذا القطاع وكادحيه أصبحوا خارج حسابات الزمن، مثلما هم خارج حسابات السياسيين الفلسطينيين، لذا لم يعد يعنيهم رأس السنة أو ذيلها.
اقرأ/ي أيضًا: