تأثّرت الفلسفة العربية الإسلامية بفلسفة الإغريق، ونسج الفلاسفة على منوال أفلاطون وأرسطو وأفلوطين. في هذه السلسلة من المقالات، سوف نتناول الكنديّ والفارابي وابن سينا وابن رشد، والغزالي وابن خلدون، حيث نخصّص حلقة خاصّة لكلّ منهم، نقف فيها على حياته وأفكاره وأعماله، ملاحقين مرحلة الإنتاج الفلسفيّ التي بدأت في القرن التاسع للميلاد، التي تلت حقبة طويلة تميّزت بالنّقل. حلقة اليوم مخصصة لابن سينا.
ريادة الشيخ الرئيس
أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا. ولد في قرية أفشنة من أعمال خرمثين قرب بخارى، عاصمة السامانيين، في شهر صفر سنة 370 هجرية (آب 980 ميلادية)، وتوفي في همذان (إيران) سنة 428 (حزيران 1037).
في العاشرة من العمر، كان ابن سينا يثير إعجاب الناس من حوله بحفظه القرآن والأدب العربي. ودرس ابن سينا على دعاة إسماعيليين قدموا من مصر مبادئ الفلسفة اليونانية والهندسة والحساب على نحو ما كان يُدرّس في الهند. وبرع في الرياضيات وتعلّم الفقه القرآني على يد زاهد كان يلقب بإسماعيل (أو إبراهيم الناسك)؛ وأخيرًا، علّمه فيلسوف متنقّل هو أبو عبد الله إبراهيم بن حسين الناتلي، الفلسفة والمنطق والهندسة. ويخبرنا ابن سينا أنّ هذا المعلّم لم يشرح له سوى القضايا الهندسية السّت الأولى، وأنّه كان عليه أن يستنتج كل الباقي بنفسه. وتاقت نفسه يومئذ إلى دراسة الطب؛ ولم يبد له هذا العلم صعبًا، بل أصاب فيه تقدّمًا سريعًا فطفق في وقت مبكر يعالج المرضى ويشفيهم. وذاع صيته في هذه الصنعة، فهرع إليه الأطباء يدرسون تحت إشرافه، مع أنه لم يكن عصرئذ يجاوز السادسة عشرة العمر ولم يبلغ الثامنة عشرة حتى بات متضلعًا بالعلوم كافة، متقنًا للمنطق والطبيعيات والرياضيات.
لما بلغ ابن سينا العشرين من العمر كتب، بناء على طلب نفر من أصدقائه، رسائل في بعض المسائل الفلسفية مما كان يثور لها اهتمامهم، وبقيت من ثمّ في حوزتهم. وعلى ذلك النحو وضع رسالته في "الحكمة العروضية"، وهي عبارة عن موسوعة صغيرة في جميع فروع المعرفة؛ كما وضع رسالته في "الحاصل والمحصول"، ورسالته في "البر والإثم" بتكليف من رجل من أهل الشرع يعرف باسم أبي بكر البرقي.
في سنة 1012 عزم ابن سينا على أن يزور في جرجان الأمير قابوس، مؤلّف كتاب "قابوس نامة" (أي مرآة الملوك)، ولكنه بعد أن قطع شطرًا طويلًا من الطريق علم أنّ قابوس زُج به في السجن واغتيل. فقصد عندئذ دهستان حيث ألزمه المرض الفراش، ولمّا تماثل إلى الشفاء قفل راجعًا إلى جرجان وهناك كتب "المبدأ والمعاد" و "مختصر المجسطي" والقسم الأوّل من "القانون في الطب". ثمّ ارتحل ابن سينا من جرجان، وقصد الري، حيث ألّف كتاب "المعاد".
ومن الري قصد فيلسوفنا قزوين أولًا، ثم همذان. وهناك عالج على مدى أربعين يومًا أمير همذان، شمس الدولة، وشفاه وصار من أصدقائه. بل إنه عمل لبعض الوقت واليًا على همذان، غير أنّ هذا المنصب لم يعد عليه إلا بالمرارة والخيبة. وفي ذلك الحين سأله تلميذه الجوزجاني – وكان يتبع فيلسوفنا منذ إقامته الأولى في جرجان – شرحًا عامًا لمؤلفات أرسطو؛ فارتضى ابن سينا بأن يمليه عليه، بشرط ألّا يعرض فيه سوى آرائه الخاصّة، بدون أن يلزمه ذلك بالرد على الآراء المعاكسة لها. وهكذا رأى النور "كتاب الشفاء".
وبعد وفاة صديقه الأمير (1021) شاء ابن سينا أن يقصد سرًّا أصفهان، لكن والي همذان الجديد اعترض سبيل الفيلسوف، بل زج به في الحبس في قلعة تعرف باسم فرجان. وفي أثناء مقامه هذا في السجن – وقد دام شهورًا أربعة – حرر ابن سينا عددًا من الرسائل المقتضبة، ومنها تلك القصة المجازية الصوفية "حي بن يقظان" (التي ينبغي ألا نخلط بينها وبين رسالة ابن طفيل التي تحمل العنوان نفسه)، وأنجز "القانون في الطب". ولما أطلق بعد ذلك سراحه، غادر همذان متنكرًا، وقصد أصفهان حيث أكمل "كتاب الشفاء" وحرر "كتاب النجاة"، وكذلك موسوعة وضعها بالفارسية برسم الأمير علاء الدولة بعنوان "دانيش نامة علائي"، وقد عالج في أبوابها السبعة جميع المعارف التي كانت متاحة في عصره عن المنطق وما بعد الطبيعة والهندسة والفلك والحساب والموسيقى.
ألّف ابن سينا عددًا كبيرًا من التصانيف؛ وقد تضمن ثبت مؤلفات ابن سينا، والذي نشره في القاهرة سنة 1950 الأب قنواتي، 276 عنوانًا، لا يزال كثير منها مخطوطًا. وهذا الفيلسوف الكبير لم يحظ على الدوام بمن يفهمه. فقد بذل الشهرستاني في مفتتح القرن الثاني عشر والغزالي في مختتم القرن الحادي عشر، مثلًا، قصاراهما للحد من تأثير ابن سينا، بل للقضاء عليه، طاعنين بوجه خاص في أرسطوطاليسيته "التي أساء فهمها".
إذا انتقلنا الآن إلى دراسة تصوف ابن سينا، وجدنا جذوره متعدّدة: ففيه نلمس تأثير الفارابي، وكذلك تأثير أفلوطين وكل المدرسة الأفلاطونية المحدثة كما كان يُستخلص، بوجه خاص، من "كتاب أوثولوجيا أرسطوطاليس". لكن لا مجال للشك في أنّ المأثور الصوفي، وكان على درجة عظيمة من الحيوية في الوسط الاجتماعي والثقافي الذي عاش فيه ابن سينا، رفده بمدد لا يمكن الغض من شأنه إطلاقًا. إنّ مؤلفات ابن سينا في الطب غزيرة وعظيمة الأهمية؛ وقد كان لمصنّفه "القانون في الطب"، في خمسة مجلدات، أثر هائل في فن النطاسة في الشرق والغرب على حدّ سواء. وما يستلفت انتباه الدارس الحديث هو المجهود المتصل الذي بذله ابن سينا ليفسّر كل شيء بعلل طبيعية.
من سوء الحظ أن مُؤَلَّف ابن سينا الرئيسي في الموسيقى، ويعرف باسم "المدخل إلى صنعة الموسيقى" قد ضاع. ولكن إذا صدق المؤرخ القفطي فإن ما خطه يراع ابن سينا فيه بخصوص النظرية الموسيقية يتخطى من بعيد ما كان معروفًا لدى الإغريق.
- المادة مأخوذة، بتصرّف، من "معجم الفلاسفة" لجورج طرابيشي.
اقرأ/ي أيضًا: