كانت المرة الأولى التي وقفت بها عند كلمة "ماسونية" عند "بسطة" كتب مستعملة، بالقرب من سور جامعة دمشق، استوقفني كتيب قديم بعنوان "الماسونية: نشأتها، تاريخها، غاياتها"، أثار اهتمامي بشكله العتيق الرث، أما أنا فكنت في بداية السنة الدراسية في كلية الحقوق، وكان هاجس الخوف من الفشل في التخرج في السنة الأولى يسيطر علي، فلم أحاول أن أطالع أي كتاب لا يمت لمنهاجها الدراسي لعدة أشهر، لذلك أكملت طريقي بعد أن نظرت على عناوين الكتب، دون أن اشتري شيئًا من البائع الذي ألح في ذلك علي، وهو يشير إلى ذلك العنوان بشكل خاص بعد أن رآه قد سيطر على اهتمامي.
نظرة عقلية متجردة لمحتوى كتب الماسونية، نجد أنها مبنية على فكرة مؤامرة قائمة من فجر التاريخ
لم أنس الماسونية بعد سنة ونصف تقريبًا وبعد انتهاء السنة الدراسية، كنت قد أتممت قراءة بعض الكتب عنها وعن بعض الجمعيات السرية، كثيرون ممن شاهدوا تلك الكتب معي، نظروا إلي بنوع من الإعجاب ممن لديهم شذرة معرفة عن الموضوع، وآخرون لم يفهموا تلك الكلمات المنمقة ولا الإشارات التي وضعت معها بكثير من الإتقان على أغلفة الكتب بغرض التشويق وإعطاء زخم لها ولمحتواها، أما أنا فقد استمتعت بقراءتها مدفوعًا بحب برغبة طفولية بمعرفة الجانب الخفي من العالم وكذلك تاريخه!
اقرأ/ي أيضًا: مصر الآن.. قبل سقوط النظام
إلا أن نظرة عقلية متجردة لمحتوى معظم هذه الكتب، نجد أنها مبنية على فكرة مؤامرة قائمة من فجر التاريخ، تديرها جهة واحدة يتغير مسماها عبر التاريخ، ولكنها ذات مضمون واحد وهدف واحد، وهو تدمير العالم، ويحاول كتبة هذه الكتب ومروجوها، تجير كل المصائب عبر التاريخ لصالح إثبات ذلك، ثم يناقض الكاتب نفسه ويذكر أسماء ماسونيين عبر التاريخ، فكيف تتطابق هذه السرية مع معرفة الكاتب بهم وتجدر الإشارة إلى معظم هذه الشخصيات الماسونية، هم من المفكرين أو علماء أو حكام كان لهم آراء أكثر مختلفة عما هو سائد في مجتمعاتهم وقد جاهروا بآرائهم تلك ولم يخفوها، ولعل أبرزهم هو ماني الذي يشير إليه كثيرون بنوع من الشك والريبة بمصطلح (مبادئ مانوية قديمة).
وبالعموم يسود فهم خاطئ بقصد أو بدون قصد لدى شرائح واسعة من المجتمعات العربية، وخصوصًا لدى الشباب، بخصوص الماسونية والخلط بينها وبين السحر والشعوذة، مع أن الجمعية الماسونية كانت تضم معظم العقول العلمية الأوروبية في عصر التنوير، وهم من أرسو العلم الحديث فكيف يتفق العلم مع السحر، أتذكر قصة حدثت في قريتنا عندما وصف مدرس في مدرستها الوحيدة أثناء حديثه أمام الناس المجالس المحلية بالماسونية (وهذه المجالس كانت قد أنشئت عقب اضمحلال سيطرة النظام في المناطق المحررة في سوريا بغرض إدارتها).
اقرأ/ي أيضًا: الصومال.. حين استعادت "العمامة" مكانتها
وأردف لهم: بأنها مؤامرة ماسونية قام بها أحد الناشطين من أبناء القرية المقيم أصلًا في تركيا، وقد تداول أهالي القرية أن السبب الحقيقي هو عدم انتخابه كرئيس للمجلس فقرر الانسحاب منه وإلقاء هذه (التهمة) على كل من به، عقل هذا المدرس لا يختلف كثيرًا عن عقل من كان يشرف على الدعاية النازية والتي سوقت لردح من الزمن كلام عن مؤامرة ماسونية يهودية كونية، وهو من حيث المبدأ والجوهر ما يشابه نظرية المؤامرة التي تؤمن فيها قطاعات واسعة من مجتمعاتنا، والتي تشكل المؤامرة الماسونية أحد أكثر أجزائها تشويقًا وإثارة.
لفظت الماسونية أنفاسها في أوروبا مع انتهاء عصر التنوير وظهرت تيارات فأخرى محلها
من جانب آخر، معظم من يشار إليهم بأصبع الاتهام بكونهم ماسونيين، تجدهم لا ينكرون ذلك، حتى الذين لا علاقة لهم بالماسونية لا من قريب أو بعيد، وربما لا يستطيعون مقاومة الإحساس بالتفرد والتمييز جراء هذا الاتهام، وهم على نوعين صنف لا علاقة له بالماسونية كجماعة ومنظومة، وآخرون فيها وهم لا ينكرون دعاوى قدم مؤامرة الحركة الضارب في التاريخ، أو بحجم أهدافها وطموحها، ويبدو أنهم هم الآخرون يريدون إضفاء هالة من نوع خاص على شخصياتهم وجماعتهم.
من الواضح أن الماسونية قد لفظت أنفاسها في أوروبا مع انتهاء عصر التنوير فيها، وظهرت تيارات فكرية وثقافية أخرى لتحل محلها، فما جدوى التمسك بفكرة المؤامرة الماسونية في العالم العربي، وهي فكرة يروج لها عن طريق تجميع أفعال تآمرية هي موجودة في كل زمان ومكان، وفي كل المجتمعات الإنسانية، بغرض التأكيد على أن المؤامرة الكونية قائمة.
اقرأ/ي أيضًا: