شعور السعادة النابع من البقاء على رفات الآخرين شهوة طاغية. ما إن يُقرّ به ويستساغ حتى يطالب بالمزيد ويعلو سراعاً إلى درجة الهوس الذي لا يروى له غليل. من تلبّسه هذا الشعور سيتملك أشكال الحياة الاجتماعية حوله ويجعلها ضحية لفجور هذا الهوس.
الهوس هوس السلطة. إنه مشدود برباط وثيق إلى حقيقة الموت بحيث يبدو لنا طبيعياً، نقبله كما نقبل الموت ذاته دون مساءلة، بل دون إدراك لماهية تشعباته وآثاره بجدية.
غاية الحروب بادية للعيان: إنها القتل، القتل الشمولي
من كسب ذوقًا في البقاء حياً رغب في تراكمه، سيحاول إيجاد ظروف يبقى فيها حياً على موات الكثيرين، ولن يكتفي باللحظات المتبعثرة للبقاء التي تهبها إياه الحياة اليومية المعتادة، ففي هذه الحياة تدوم الأمور طويلاً، ولا يستطيع الإسراع بها.
غاية الحروب بادية للعيان: إنها القتل، القتل الشمولي. الهدف منها تكديس جثث الأعداء الميتين، ومن يبغي النصر يضع نصب عينيه البقاء حياً على جثث هؤلاء الأعداء الموتى. لكن الأمر لا ينتهي هنا، فالكثير من الأهل والأصدقاء يسقطون أيضاً والبقاء يقوم على جثثهم أيضاً. من يعشق خوض الحرب، يذهب راجياً أن يعود، ظاناً أن الموت لن يطاله، إنه نوع من اليانصيب المعكوس، يكسبه من لا يسحب بطاقة. من يعشق خوض الحرب يذهب وهو واثق، وهذه الثقة تقوم على أمل أن يكون الصرعى على الجبهتين، على جبهة الأصدقاء أيضاً، أعداداً من الآخرين، إلا أنه هو ذاته لن يكون بينهم. وبهذا فإن الحرب تقدم للرجل العادي أيضاً، الذي لا يشكل استثناء في زمن السلم، فرصة الشعور بالقوة، هناك، حيث يتجذر هذا الشعور في البقاء المتراكم على رفات الآخرين. ويجب عدم تجاهل حضور الموتى هنا، فعليهم يرتكز كل شيء، وحتى من لم يجرتح مآثر كثيرة من هذه الناحية، يسمو بمرأى الصرعى الذين لا يجد نفسه بينهم.
الفرد الواحد لا يمكنه قتل كثيرين، كما يتطلبه هوسه بالبقاء حياً. لكنه قادر على إثارة الآخرين وتحريضهم أو قيادتهم لهدفه. كقائد ميداني، يحدد هو شكل المعركة، يخطط لها سلفاً ويعطي الأمر ببدئها، يأمر في إعلامه بأخبارها. من قبل كان القائد يراقب مجرياتها من مكانٍ عال. وبهذا يبقى طاهر اليد من المشاركة المباشرة في القتال، وربما لا يقتل أحداً بيديه. لكن الآخرين، المؤتمرين بأمره، يؤمنون له بغيته. ما يفلحون فيه يسجّل على حسابه. هو المنتصر الأول والأخير. يعلو نجمه كما تنمو سلطته بازدياد عدد القتلى. لن يكنّ له شديد الاحترام إذا خاض معركة لا يجري فيها قتال عارم وتنتهي بسرعة ودون ضحايا تذكر. على انتصارات واهية لا تبنى سلطة حقيقية. الهول الذي يفترض أن تثيره هذه، وهذا هو مسعاه أصلا، يتعلق بكثرة عدد الضحايا.
جوهر هذه السلطة هو الجشع في البقاء على أشلاء جماعات بشرية
رغبته في البقاء تنمو مع سلطته، وسلطته تبيح له الاستسلام لها. جوهر هذه السلطة هو الجشع في البقاء على أشلاء جماعات بشرية.
والأصلح له أن يكون ضحاياه من الأعداء، لكن لا ضير إن سقط الأصدقاء أيضا. باسم المروءة يطالب رعاياه بالصعب، بالمستحيل. لا يعبأ إن هلكوا. إنه قادر على إقناعهم بأن هلاكهم شرف لهم، لأنهم يهلكون لأجله. بالغنائم التي يزودهم بها بداية، يشدهم إلى نفسه. يستغل حق الإمارة، الذي كأنه خلق لغايته (رغم الحاجة الشديدة إليها، لا يمكننا اليوم القيام بدراسة تفصيلية وعميقة لمسألة الأمر العسكري). يجعل منهم، إن كان يستحسن هذا، جماهير حربية ويختلق لهم أعداء خطيرين فيستحيل عليهم الخروج عن دين الجموع المحاربة.
الهدف الفعلي للطاغية الحقيقي أخرق ولا معقول. إنه يريد أن يكون الأوحد، يريد أن يبقى حيا على رميم الآخرين، كي لا يبقى أحد بعده حيا. يريد النفاذ من الموت مهما كان الثمن وبهذا يعدم كل من قد يقرب الموت إليه. طالما وجد بشر، أيا كانوا، لن يشعر الطاغية بالأمن والاستقرار. فحتى حراسه المكلفون بحمايته من الأعداء قد يديرون له ظهر المجن. لا يصعب الإتيان بالبرهان الدامغ على خشيته من الذين يأتمر عليهم ودائما ما يدخل أقرب المقربين الروع في قلبه.
الناس حوله هالكون جميعا وهو، كما يتمنى، الإنسان الوحيد. وهذه هي المرحلة العليا والأخيرة للسلطة. قد يسعى إليها الساعي، لكنها لا تتحقق إلا في وهم المجنون. إنه القائد العظيم على الأشباح من حوله، تجتمع حوله آلافا مؤلفة. لكنها لا تبقى متجمعة حوله كجمهور، كشعب حول قائده، بل يحدث لها ما يحدث تدريجيا بمرور الأعوام للشعوب التي تجتمع حول قوادها: إنها تصغر مقارنه به، فما أن تبلغه حتى تتقلص سريعا إلى حجم لا يتعدى المليمترات والعلاقة الحقيقة بينهما تنبع من اليقين. هو مقارنة بهم عملاق، هم مخلوقات قميئة تحرص عليه. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد أيضا، فالرجل العظيم يبتلعها ابتلاعا. إنها تدخل فيه حرفيا لتختفي تماما. أثره عليها أثر ساحق. إنه يجذبها ويلتقطها، يصغّرها ويلتهمها. كل ما كانوه يوضع في خدمة جسده.
الترجمة عن الألمانية: كاميران حوج