توفي قبل يوم أمس الثلاثاء، 11 تموز/ يوليو في العاصمة الفرنسية باريس، الكاتب والروائي الفرنسي – التشيكي ميلان كونديرا عن عمر ناهز 94 عامًا بعد صراع طويل مع المرض.
يُعد كونديرا روائيًا استثنائيًا لأسباب عديدة يتعلق بعضها بتجربته السياسية وخروجه من بلاده وتجريده من جنسيته، فيما يرتبط بعضها الآخر بأعماله الروائية المميزة التي شكّلت، عملًا بعد آخر، سؤالًا مفتوحًا لكل ما يتعلق بحياة إنسان القرنين العشرين والحادي العشرين.
النشأة
ولد ميلان كونديرا في مدينة برنو التشيكية عام 1929 لعائلة مثقفة، إذ كان والده لودفيك كونديرا عازف بيانو وباحثًا متخصصًا في علم الموسيقى، ولعل هذا السبب وراء شغف الراحل بالموسيقى التي تحضر في معظم رواياته بأشكال وصور مختلفة، سواء تعلق بما يطرحه من تأملات فلسفية حولها، أو باعتماده عليها في تصميم بنية العمل الروائي.
لم يقتصر شغف كونديرا في شبابه على الموسيقى فقط، بل شمل أيضًا الأدب وخاصةً الشعر الذي كتبه وترجمه من اللغة الروسية التي تعلّمها سرًا، بسبب الاحتلال الألماني لبلاده خلال الحرب العالمية الثانية، التي ستترك أثرًا كبيرًا على حياته وفكره، وستكون – إلى جانب نتائجها – إحدى أهم العوامل التي دفعته للانضمام إلى الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي بعد طرد القوات السوفييتية الألمان من بلاده.
أكمل الراحل دراسته الثانوية بمدينة برنو عام 1948، ثم انتقل إلى براغ لدراسة الأدب والموسيقى والإخراج السينمائي وكتابة السيناريو، وقد عمل بعد تخرجه عام 1952 أستاذًا مساعدًا ثم محاضرًا في الأدب العالمي في كلية السينما بأكاديمية براغ.
كونديرا والحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي
يعود تأثر ميلان كونديرا بالشيوعية لأسباب عديدة، لعل أهمها نتائج الحرب العالمية الثانية، والأجواء التي سادت بعدها بالإضافة إلى شعور الكثير من الشبّان المثقفين المتعلمين بأن الشيوعية هي الحل الأمثل لجميع المشاكل السياسية والاجتماعية سواء داخل بلادهم أو خارجه.
رغم ذلك، لم تكن العلاقة بين كونديرا والحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي مستقرة، إذ طُرد منه بعد نحو عامين فقط من انضمامه إليه لأسباب تتعلق بأفكاره التي اعتُبرت هدّامة وذات نزعة فردية لا تتناسب مع أفكار الحزب. وعلى الرغم من استعادته لعضويته عام 1956، إلا أن العلاقة بين الطرفين ظلت متوترة بسبب أفكار وقناعات كونديرا المعارضة لسياسات وممارسات الحزب الذي سيعود للتصادم معه خلال أحداث انتفاضة "ربيع براغ" التي قمعتها القوات السوفيتية بعد اجتياحها لتشيكوسلوفاكيا عام 1968.
سبق "ربيع براغ" صدور أولى روايات كونديرا "المزحة" التي تضمنت نقدًا لاذعًا لدولة الحزب الواحد، وبالتالي للنظام الشيوعي وممارساته القمعية، مرّره الراحل بأسلوب جمع فيه بين الفكاهة والسوداوية. وقد أثارت الرواية غضب السلطات التشيكوسلوفاكية التي قامت بحظر كتب كونديرا، الذي سيُطرد من الحزب الشيوعي عام 1970 بسبب دعمه لـ "ربيع براغ"، وأسباب أخرى كثيرة منها ما جاء في روايته السابقة.
وعانى مؤلف "الوصايا المغدورة" بعد طرده من الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي من ملاحقة السلطات له وتضييقها المستمر عليه، فغادر بلاده إلى فرنسا عام 1975، وأقام في مدينة رين التي عمل أستاذًا زائرًا في جامعتها حتى عام 1979، وهو تاريخ تجريده من جنسيته وانتقاله إلى العاصمة باريس، حيث سيعمل أستاذًا للأدب المقارن في المعهد العالي للعلوم الاجتماعية. وبعد نحو عامين من انتقاله لباريس، في عام 1981 تحديدًا، مُنح الروائي التشيكي الجنسية الفرنسية.
مسيرته الأدبية
بدأ ميلان كونديرا حياته الأدبية بكتابة الشعر، إذ صدر له بين عامي 1953 – 1958 ثلاث مجموعات شعرية ضم بعضها قصائد رومانسية، واشتمل بعضها الآخر على قصائد قريبة من الواقعية الاشتراكية دون أن تخلو من الجرأة والتجديد بحسب البعض. ولكن كونديرا يرى أن حياته ككاتب بدأت مع مجموعته القصصية "غراميات مرحة" التي نشرها عام 1963، وهي مجموعته القصصية الوحيدة.
وفي عام 1967، نشر الراحل روايته الأولى "المزحة" التي قدّمت صورة سوداوية ساخرة عن الحياة في ظل نظام الحزب الواحد وآلية عمله وممارساته أيضًا. ورغم طابعها الفكاهي السوداوي، وما تتضمنه من تأملات فلسفية، إلا أنها استُقبلت من قبل الصحافة والنقاد – خاصةً في الغرب – بوصفها عمل سياسي، وهو ما رفضه كونديرا الذي يرى أن وصف أعماله بأنها روايات سياسية يخفي أهميتها الحقيقية.
وإلى جانب "المزحة"، كتب كونديرا أثناء وجوده في براغ روايتين هما "الحياة في مكان آخر" التي عدّها نقاد كثر أشبه بمحاولة من كونديرا للتخلص من ماضيه كشيوعي سابق، و"فالس الوداع" التي قال الراحل في لقاءات صحفية مختلفة بأنه كتبها بحرية لكونه ممنوعًا من النشر في بلاده، ما يعني أنها ستكون بمنأى عن أجهزة الرقابة وموظفيها. وفي فرنسا، كتب كونديرا بقية رواياته، خاصةً "خفة الكائن التي لا تُحتمل"، التي تُعد أهم رواياته وأكثرها شهرةً على الإطلاق.
تعامل كونديرا مع الرواية بوصفها طريقة لاستكشاف الحياة، فحمّل رواياته مقولات مختلفة وأفكار نقدية والعديد من الأسئلة التي تطرحها شخصياته، التي أوجدها كذوات تجريبية لفهم تفاصيل ومفاهيم مرتبطة بحياة الإنسان ولا يُلتفت إليها عادةً. فالشخصية الروائية لديه ليست محاكاة لكائن حي، وإنما كائن خيالي.