23-أكتوبر-2023
gaza strike

أودى القصف الإسرائيلي إلى مقتل الآلاف من الفلسطينيين في غضون أسبوعين (Getty)

في الوقت الذي تقطع فيه إسرائيل الكهرباء، اللازمة لتشغيل أجهزة الاتصال بالإنترنت، عن قطاع غزة، بالتزامن مع استمرار الغارات الجوية التي أسفرت عن سقوط حوالي 5000 ضحية وثلاثة أضعافهم من الجرحى، كانت إحدى أكبر شركات الإعلام في أوروبا تعمل في الخفاء على الحد من تدفق الأخبار حول الضحايا المدنيين في فلسطين.

"لا يمكننا إرسال أي شيء يتعلق بعدد القتلى أو الضحايا الفلسطينيين دون ظهور معلومات حول إسرائيل في مكانٍ أعلى في القصة"

أصدر تطبيق Upday، وهو أكبر تطبيق لتجميع الأخبار في أوروبا -الذي يعمل بنفس مبدأ عمل تطبيق "نبض" في المنطقة العربية- توجيهاتٍ لموظفيه بـ "إضفاء نكهة" المشاعر المؤيدة لإسرائيل خلال تغطية حربها على غزة، وفقًا لمقابلات مع الموظفين ووثائق داخلية حصلت عليها صحيفة "ذا إنترسيبت".

الترا فلسطين

أعطت الإدارة في Upday، وهي شركة تابعة لشركة النشر العملاقة "آكسل سبرينغر" ومقرها ألمانيا، والتي تعد بيتًا لعدد من الصحف والمواقع الإعلامية الكبرى، مثل "بيلت" و"بوليتيكو" و"إنسايدر" و"دي فيلت"، تعليمات لإعطاء الأولوية للمنظور الإسرائيلي وتقليص عدد الوفيات بين المدنيين الفلسطينيين في التغطية، وفقًا لشهادات الموظفين.

وقال أحد الموظفين لصحيفة "ذا إنترسيبت"، أثناء حديثه عن الإشعارات الفورية، والتنبيهات المرسلة إلى ملايين الهواتف المشتركة بخدمة الأخبار التي يقدمها التطبيق: "لا يمكننا إرسال أي شيء يتعلق بعدد القتلى أو الضحايا الفلسطينيين دون ظهور معلومات حول إسرائيل في مكانٍ أعلى في القصة". وقال الموظفون، الذين طلبوا من الصحيفة عدم الكشف عن هويتهم لحماية سبل عيشهم، إن هناك انزعاجًا واسع النطاق في جميع أنحاء الشركة بشأن هذه التحركات.

وبحسب شهادات الموظفين التي نقلتها الصحيفة، كان التقدير الكبير الذي يكنه كبار مسؤولي Upday لإسرائيل واضحًا خلال عمليات التواصل اليومية؛ ففي تطبيق "سلاك" الخاص بالشركة، يظهر علم إسرائيل بجانب الصورة الشخصية لرئيس الشركة التنفيذي توماس هيرش. وحاول ألتراصوت التواصل مع تطبيق Upday ومع هيرش بشكلٍ مباشر للحصول على تعليق، لكنه لم يتلقَّ ردًا حتى الآن.

وفي توجيهاتها، حذرت إدارة Upday موظفيها من نشر أي عناوين يمكن أن "يُساء فهمها" على أنها مؤيدة للفلسطينيين، وفقًا للشهادات الداخلية الواردة. كما انطوت بعض التعليمات على صياغة التعليقات التي أدلى بها الساسة الإسرائيليون والتي تجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم، بلغة تؤكد على حجم ووحشية هجمات حماس على إسرائيل، والتي أدت حتى الآن إلى مقتل 4000 ضحية، ربعهم تقريبًا من الأطفال.

وكان من بين التوجيهات عدم الاستشهاد بـ "الجماعات الفلسطينية المسلحة" في العناوين الرئيسية للمواد الخبرية، حتى تلك التي تحمل تصريحات ممثليها.

في المقابل، قالت جوليا سومرفيلد، ممثلة شركة النشر "أكسل سبرينغر" ومقرها ألمانيا: "نحن نرفض بشدة تلك الادعاءات" وأضافت "لم نوجه صحفيينا إلى تجاهل الضحايا المدنيين في غزة، ولم نطلب من محررينا التلاعب بالتغطية الإخبارية، ولم تشارك إدارة الشركة في أي قرارات تحريرية. إذ تستند المبادئ التوجيهية التحريرية لموقع Upday على المبادئ الصحفية وقائمة 'المبادئ الأساسية' (المتاحة للعامة) الخاصة بآكسل سبرينغر"، في إشارة منها إلى بيان قيم الشركة.

وقالت سومرفيلد: "إن التغطية الإخبارية لموقع Upday تتبع هذه المبادئ، ويتم اتخاذ كل قرار تحريري من قبل صحفيين مدربين".

"المبادئ الأساسية" صلب المشكلة

عندما أعلنت مجموعة "أكسل سبرينغر" في أغسطس/آب 2021 أنها ستنفق أكثر من مليار دولار للاستحواذ على صحيفة بوليتيكو، وهي واحدة من أكثر المؤسسات الإخبارية نفوذًا وتغطي السياسة المحلية والخارجية في الولايات المتحدة، أثارت الدهشة والاهتمام بين مختلف المعنيين بهذه الصنعة. أولاً من ناحية حجم الصفقة ومضاعفة عدد موظفي الصحيفة بأكثر من 10 بالمئة، وثانيًا من ناحية دخول لاعب ألماني رئيسي إلى غرف الأخبار الأميركية، وكون ذلك اللاعب هو "آكسل سبرينغر" تحديدًا، التي وضعت قائمة "المبادئ الأساسية" المثيرة للجدل.

أنشأ تلك القائمة مؤسس الشركة الراحل الذي تحمل اسمه في عام 1967، والتي، منذ مارس/آذار 2016، "توحد جميع الموظفين في جميع الشركات التابعة لآكسيل سبرينغر في الدفاع عن الحرية"، بحسب الموقع الإلكتروني للشركة. المبادئ الخمسة الأساسية التي تعتبرها شركة أكسل سبرينغر ملزمة لجميع موظفيها، والتي لا يستثنى منها أي من موظفي الشركات التابعة لها، تنصّ على ما يلي:

  • إننا ندافع عن الحرية وسيادة القانون والديمقراطية وأوروبا الموحدة.
  • نحن ندعم الشعب اليهودي وحق دولة إسرائيل في الوجود.
  • نحن نؤيد التحالف عبر الأطلسي بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
  • نحن نتمسك بمبادئ اقتصاد السوق الحر ومسؤوليته الاجتماعية.
  • نرفض التطرف السياسي والديني وكافة أشكال العنصرية والتمييز الجنسي.

قال ماثياس دوبفنر، الرئيس التنفيذي لشركة سبرينغر، لصحيفة وول ستريت جورنال في عام 2021: "إن هذه القيم تشبه الدستور، فهي تنطبق على كل موظف في شركتنا"، مضيفًا أن الأشخاص الذين لديهم مشكلة أساسية مع أي من هذه المبادئ "يجب ألا يعملوا لدى أكسل سبرينغر"، بوضوح تام.

وعلى الرغم من أن تلك المبادئ تتسق مع الرأي العام السائد لدى غالبية الوسائل الإعلامية في الغرب، لكنها تثير قلقًا خاصًا للكتاب والمحررين ذوي الميول اليسارية، وحتى الصحفيين الذين قد يتفقون شخصيًا مع جميع المبادئ المذكورة ينظرون إلى إصرار الشركة عليها على أنه يتعارض مع روح التحقيق الصحفي. 

وفي حين لا يمكن وصف بوليتيكو بأنها صحيفة يسارية، بيد أن تغطيتها للمجريات في غزة وفلسطين عمومًا، سواءً في سياق الحرب الحالية أو سابقاتها، انحرفت في بعض الأحيان عن الدعم غير النقدي الذي يتضمنه البند الثاني من قائمة المبادئ الأساسية للشركة المالكة، إذ نشرت على سبيل المثال منذ أيام مقالاً يعد من أجرأ ما نُشر في وسائل الإعلام الغربية السائدة حول الأوضاع بعنوان "هناك خيارات أمام إسرائيل لا تتضمن قتل آلاف المدنيين".

وقال دوبفنر إن موظفي بوليتيكو، على عكس نظرائهم في ألمانيا، لن يُطلب منهم التوقيع على التزام مكتوب بمحتويات القائمة، لكن تعليقاته حول هذه المسألة، وعودة المتحدثة باسم الشركة للقول أن كافة القرارات التحريرية تُتخذ بموجبها، لا تزال تبعث برسالة واضحة إلى أي صحفي ينتقد إسرائيل علانية  -فضلاً عن انتقاد رأسمالية السوق الحرة، أو حلف شمال الأطلسي، أو الاتحاد الأوروبي- وأنهم غير مرحب بهم تمامًا. وليس من المبالغة الاعتقاد بأن هذا يمكن أن يكون له تأثير مروع على الصحفيين الفلسطينيين على وجه الخصوص، الذين من المرجح أن يمتلكوا شكوكًا حول حق دولة إسرائيل في الوجود، أو أنهم على الأقل استخدموا عبارات أو شاركوا في أعمال يمكن تفسيرها على أنها تشكيك في ذلك الحق المفترض.

رواج لـ "مبادئ" آكسل سبرينغر في الأوساط المؤيدة لإسرائيل

بالنسبة لبعض العاملين في مجال الإعلام، تعتبر قائمة مبادئ سبرينغر، التي استخدمتها المتحدثة باسم الشركة كردّ على اتهامات تحيزها لصالح إسرائيل في تغطية الحرب الحالية على غزة، جريئة ومشجعة. ولطالما لاقت رواجًا واستحسانٍ واسعين.

عند سماعه عن بيع بوليتيكو في أغسطس/آب، كتب الصحفي الأميركي المُحافظ جيمس كيرشيك لمجلة "تابلت" اليهودية ذات الميول اليمينية أن قائمة الأساسيات تمثل "الوضوح الأخلاقي"، وأشاد بشركة آكسل سبرينغر لرفعها العلم الإسرائيلي خارج مقرها في برلين في مايو/أيار 2021 ردًا على ما وصفه بـ "تصاعد أعمال العنف في غزة والهجمات المعادية للسامية اللاحقة في ألمانيا".

وكتب في مقالته: "تؤمن شركة آكسل سبرينغر بأن الوظيفة لديها هي امتياز، وليست حقًا، وأنه إذا انزعج الموظفون من الأساسيات، فمن حقهم تمامًا العثور على عمل في مكان آخر"، واختتم مقالته بـ "حظًا سعيدًا لموظفي بوليتيكو".

وفي تغريدة للترويج لمقال كيرشيك أعلاه، وافقت باري فايس، محررة موقع "فري برس" التي تطلق على نفسها لقب "بطلة حرية التعبير"، والتي تعد من أكبر مروّجي الرواية الإسرائيلية في الأوساط الصحفية منذ أسبوعين، على ما قاله وأضافت: "كل ما يتطلبه الأمر لوقف الجنون هو وجود شخص بالغ على استعداد لقول لا. من المدهش مدى ندرة تلك الأيام. الرئيس التنفيذي لشركة أكسل سبرينغر هو واحد من القلائل".

سلسلة من الفضائح الإعلامية

يأتي ذلك في ظل استمرار الكشف عن انحياز واسع النطاق بين عمالقة وسائل الإعلام الغربية، كان موجودًا منذ سنوات، ولكنه تكثف مع عملية طوفان الأقصى التي أطلقتها كتائب القسام والحملة العسكرية العنيفة التي شنتها إسرائيل على غزة ردًا عليها.

ففي شبكة MSNBC الإخبارية الأميركية، تم تجريد ثلاثة مذيعين مسلمين من مهامهم ونقلهم إلى أقسام أخرى، وفقًا لتقارير نفتها الشبكة. وطردت وكالة أسوشييتد برس مراسلها عصام عدوان بسبب منشورات نشرها على صفحاته على وسائل التواصل الاجتماعي توثّق أحوال المدنيين في غزة تحت القصف، بتهمة انتهاك "المبادئ التوجيهية الداخلية" أو انتهاك "أخلاقيات مهنة الصحافة".

كما أوقفت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" ستة صحفيين على ذمة التحقيق فيما إذا كانوا قد نشروا تصريحات مزعومة معادية لإسرائيل على وسائل التواصل الاجتماعي. واضطرت الشبكة البريطانية أيضًا إلى الاعتذار للمشاهدين بسبب المعلومات المضللة التي تصور الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في المملكة المتحدة على أنها "موالية لحماس". بينما قامت صحيفة الغارديان البريطانية مؤخرًا بطرد رسام الكاريكاتير المخضرم لديها منذ أربعة عقود ستيف بيل على خلفية اتهامات بمعاداة السامية بسبب رسم ساخر لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.