تنمو حركات اليمين المتطرف في ولاية سكسونيا الألمانية، أكثر من غيرها من الولايات، ولذلك علاقة بتاريخ طويل من "القُبح" الذي كرست له سنوات من الحكم الشمولي، وتجاهل السلطات لاتساع دائرة العنصرية في الولاية بين المواطنين تجاه "الغرباء". ولازدهار اليمين المتطرف في هذه الولاية الشرقية، أسباب أخرى تتعلق أيضًا بإرث متراكم من الشعور بالمظلومية، فجّرت مؤخرًا "ثورة" عنصرية بامتياز، ضحايا هم اللاجئون، وربما وحدة ألمانيا كذلك. فيما يلي ننقل لكم ترجمة بتصرف لمقال مطول أعدته صحيفة "شبيغل" الألمانية عن ولاية سكسونيا الرازحة تحت السطوة المتنامية لليمين المتطرف.
اجتذبت مجموعة واحدة يمينية في ألمانيا، تدعى هوونارا (HooNaRa) اهتمامًا خاصًا على مر السنين، واسمها يرمز لـ"المتعصبين العنصريين النازيين". وقد تم حل الجماعة اليمينية المتشددة هذه في عام 2007 رسميًا، لكن الروابط بين أعضائها ما زالت نشطة.
في السنتين الأخيرتين ازدادت الاعتداءات العنصرية على اللاجئين في مدينة كيمنتس بألمانيا، ويُرجح أن تزيد هذا العام أكثر فأكثر
أحد هذه الروابط تتمثل في رابطة جماهيرية تدعى "المجتمع الجديد"، ويرمز أعضاؤها لأنفسهم على أنهم "شباب إن إس" (NS Boys) في إشارة إلى الاشتراكية القومية (National Socialism). ويتضمن شعار الرابطة صورة لهتلر في شبابه.
اقرأ/ي أيضًا: سكسونيا اليمين المتطرف.. حضن النازيين الجدد المشتعل
وقد اعتاد أعضاء مجموعة "المجتمع الجديد"، مثلما اعتاد أعضاء المجموعة اليمنية "كاوتيك"، على استخدام وسائلهما للحشد على التظاهر في مدينة كيمنتس بولاية سكسونيا الألمانية. وتخضع هاتان المجموعتان لمراقبة مكتب حماية الدستور الألماني، كما أنهما حظرتا من دخول ملاعب كرة القدم لسنوات، لكن تأثيرهما على المشهد الأكثر اعتدالًا يعتبر واسع النطاق.
أندرياس لوشير، وهو موظف اجتماعي في جمعية "RAA Sachsen"، وهي عبارة عن مشروع لمساعد ضحايا العنف العنصري.. أعد قائمة بالهجمات العنصرية في 26 أغسطس/آب 2018 بألمانيا. وقد أحصى لوشير إجمالي سبعة حوادث في ذلك اليوم، إضافة إلى 11 حادثة أخرى وقعت في اليوم التالي.
يُذكر أن 26 آب/أغسطس 2018، هو اليوم الذي تعرض فيه مواطن ألماني من أصل كوبي، للطعن من قبل عربيين من طالبي اللجوء، هما يوسف من العراق وعلاء من سوريا. ولمعرفة المزيد عن تفاصيل هذا الحادث بالإمكان الرجوع إلى هذا التقرير.
يقول لوشير: "هذه مجرد أرقام أولية"، ومع ذلك فهو على يقين من أنه لم ير أي شيء مماثل من قبل في كيمنتس. كان لوشير البالغ من العمر 37 عامًا على دراية بالمشهد اليميني في كيمنتس لأكثر من 20 عامًا. أحصى 20 هجومًا خلال العام الماضي. وفي عام 2016 كان عددهم 32، ويعتقد هذا العام أن العدد الإجمالي سيكون أعلى نظراً لعدد الحوادث التي وقعت في الفترة الأخيرة.
نشر لوشير تحذيرًا على صفحة جمعية "RAA Sachsen" في فيسبوك، قال فيه: "نوصي بأن يتجنب المهاجرون زيارة مركز المدينة بعد ظهر اليوم". "لقد كان الاستسلام أساسيًا"، يقول لوشير، مبررًا: "لا نستطيع تعريض أي شخص للخطر".
هيمنة الخوف غير المبرر
تحدثت إلينا امرأتين عن خوفهما من تسارع الخطر في كيمنتس. وقد فضلتا استخدام أسماء مستعارة، لذا سنطلق عليهما أنطونيا وماري. تقول أنطونيا: "هنا أنت عرضة لليمينيين المتطرفين بمجرد الخروج من باب بيتك. لا توجد مشكلة على الإطلاق بالنسبة لكثيرين في كيمنتس في كونهم ينتمون لليمين. ولكن أولئك الذين يصبحون نشطين بصفتهم يساريين سياسيين يتعرضون لخطر التهديد"
تعيش الفتاتان في "كمبوت"، وهو مركز ثقافي يساري بديل، كما أنه مركز للإقامة يتميز بوجود االكثير من الجداريات والأثاث محلي الصنع في الفناء، وعدد غير قليل من القطط المتجولة. ولطالما كانت كمبوت هدفاً للهجمات اليمينية، ففي عام 2017 على سبيل المثال، رمى النازيون الجدد الصخورعبر النافذة الأمامية لمقهى القراءة، حيث كانت أم وابنها يجلسان على الجانب الآخر، لكن لحسن الحظ لم يصابا بأذى.
يبدو الخوف شعورًا مهيمنًا على الحياة في كيمنتس، يقول ميكو رانكل، والذي كان مسؤولًا عن الأمن في كيمنتس خلال السنوات العشر الماضية، وكان قبل ذلك مدعيًا عامًا وقاضيًا؛ إنه شاهد في الأيام الأخيرة مواطنين من مدينته، يقولون عبر التلفاز، إنهم لم يعودوا يجرؤوا على الخروج من الشوارع.
يتعجب رونكل مما يحدث، فهو كما يقول، يتوقع أن تحدث جرائم قتل واغتصاب في أي مدينة يزيد عدد سكانها عن 250 ألف نسمة، ويرى أن الأمر لا علاقة له مباشرة باللاجئين.
في عام 2015، كانت كيمنتس بمثابة مركز الاستقابل الأول لجميع اللاجئين الذين جاؤوا إلى ولاية سكسونيا، فقد وصل إلى المدينة 70 ألف لاجئ. "بالطبع كانت هناك بعض المشاحنات"، يقول رونكل، مضيفًا: "قبل أن يهدأ الوضع بشكل كبير منذ ذلك الحين". وبحسب رونكل لم تحدث خلال السنوات السابقة جريمة واحدة بحجم جريمة الطعن الأخيرة التي راح ضحيتها مواطن ألماني في العقد الثالث من عمره. لنحو ثلاث سنوات عاش اللاجؤون دون أن يمثلوا خطرًا حقيقيًا على المجتمع إذن.
وفي الآونة الأخيرة، بدأت المدينة في استثمار 80 ألف يورو سنويًا في مشروع يهدف إلى تعزيز الديمقراطية والتسامح وتفاعل شعوب العالم في كيمنتس. وتم تركيب كاميرات فيديو مؤخرًا، وإنشاء مركز شرطة متنقل حيث يمكن للمواطنين الإبلاغ عن مخاوفهم. يؤكد رونكل على أن الوضع الأمني في كيمنتس جيد.
لكن ذلك لم يمنع حالة الهلع والخوف غير المنطقي، رغم أنه إن سألت المواطنين في المدينة فسيؤكدون أن شيئًا لم يحدث. "هناك خوف غير مبرر" كما يقول رونكل، رغم أنه قبل جريمة طعن المواطن الألماني دانييل إتش، لم يكن ثمة حديث شائع حول الجريمة في المدينة.
الإحصائيات الرسمية تدعم تقييم رونكل للوضع في سكسونيا، حيث انخفض عدد جميع الجرائم التي ارتكبت في سكسونيا قليلًا في العام الماضي بنسبة 0.5%. كانت هناك حالات اقتحام أقل وسرقات سيارات أقل وسرقات أقل. بولغ عدد الجرائم المرتكبة في المجتمعات على طول الحدود إلى الجمهورية التشيكية وبولندا، أدنى عدد لها منذ أكثر من 10 سنوات.
لا أحد يهتم للإحصائيات!
عندما يتعلق الأمر بجرائم خطيرة مثل القتل، فإن عدد الحالات منخفض للغاية، في العام الماضي كان هناك 27 جريمة قتل و69 حالة قتل غير متعمد في الولاية التي يبلغ عدد سكانها أكثر من أربعة ملايين نسمة. وبين عامي 2011 و2014 كان هناك حوالي 110 حالات اغتصاب واعتداء جنسي مبلغ عنها في ولاية سكسونيا كل عام. وفي عام 2015، وهو عام التدفق الهائل للاجئين، كانت هناك 81 حالة اغتصاب فقط. ولم يعد بالإمكان مقارنة الأعداد من عام 2017، بسبب التغييرات التي أُدخلت على تشريع الجرائم الجنسية، وعلى الطريقة التي يتم بها الاحتفاظ بالإحصاءات المتعلقة بهذه الجرائم.
لكن من يهتم حقًا بتلك الإحصاءات الرسمية؟ بالتأكيد ليس أولئِكَ البرلمانيين الثلاثة من حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني في ولاية سكسونيا، فقد عرضوا وجهة نظرهم الخاصة في مؤتمر صحفي، فقالوا إن "المواطنين يخشون على سلامتهم وسلامة أطفالهم"، وادعوا أن هناك زيادة في معدلات الجريمة، ولا سيما الجرائم الخطيرة كالقتل والسرقة والاغتصاب!
وعندما سألهم مراسل عن كيفية التوصل لهذا الادعاء المخالف تمامًا للإحصائيات، أجابوا: "لسنا على علم بالإحصائيات التي تتحدث عنها. يتعين عليك أن تطلعنا عليها وأن توضح لنا مصدرها"! وببساطة مصدر الإحصائيات هو المكتب المحلي للشرطة الجنائية في سكسونيا.
وتظهر الإحصائيات أن حوالي خمس مرتكبي الجرائم من غير الألمان، ونصف هؤلاء من المهاجرين. وفي المقابل، احتلت سكسونيا الصدارة في معدلات الجرائم التي ارتكبها اليمين المتطرف في ألمانيا، وفقًا لتقرير أعده مكتب حماية الدستور، فقد شهد عام 2017 وحده 95 جريمة ارتكبها أعضاء بحركات اليمين المتطرف في الولاية.
تاريخ من الفشل في مواجهة التطرف اليميني
لدى حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تنتمي إليه أنجيلا ميركل، تاريخ من التعامل مع اليمين المتطرف في سكسونيا، تميز في معظمه بالفشل، حتى أن ماركو واندرويتز، الذي يتولى اليوم منصب مسؤول كبير في وزارة الداخلية الاتحادية، يعترف بالقول: "لم نكن في الحزب بولاية سكسونيا نتابع عن كثب نشاط التطرف اليميني لسنوات عديدة، ولم نفعل ما كان علينا فعله بهذا الشأن".
لدى حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تنتمي إليه ميركل تاريخ من التعامل مع اليمين المتطرف في سكسونيا، تميز معظمه بالفشل
بدأت الاضطرابات فور انهيار الشيوعية، عندما حقق كيرت بيدنكوبف من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي نتيجة انتخابية بلغت 53.8٪، ليصبح أول حاكم للولاية ما بعد عهد الشيوعية. في تلك الفترة، في أيلول/ سبتمبر 1991، قام 500 شخص بأعمال شغب أمام مبنيين أجنبيين في هويرسويردا. كانت المشاهد بشعة. وأوضح بيدينكوبف في مقابلة صحفية أن المواطنين من شرق البلاد لم يعتادوا على العيش جنبًا إلى جنب أناس من ثقافات أخرى. وبلغ الجدال ذروته عندما اعتبر بأن "المشكلة الحقيقية تكمن في الهجرة".
اقرأ/ي أيضًا: "مواطنو الرايخ الألماني".. ألمانيون يرفضون الاعتراف بانتهاء ألمانيا النازية
وبعد تسع سنوات فقط، زعم بيدنكويف أن السكان السكسونيين كانوا "محصنين تمامًا" من إغراءات اليمين المتطرف، مضيفًا أنه في ولاية سكسونيا، لم تُضرم النيران في أي من المباني ولم يُقتل أحدٌ بعد، لكن الحقيقة، هي أن خمسة أشخاص قد قتلوا منذ سقوط الجدار في جرائم أثارها اليمين المتطرف. وفي ذلك الوقت، اتهمت المعارضة السياسية الحكومة بأنها لا علاقة لها بما يحدث على أرض الواقع.
وبدلاً من التعامل بجدية مع مشكلة الشباب المتطرف في ولايته، فضل بيدنكوبف أن يُنمي نوعُا من روح الوطنية المُريحة، مروجًا صورة السكسونيون باعتبارهم أذكياء بشكل خاص، وفخورين جدًا بولايتهم، ويتمتعون بودية كبيرة، ويتميزون بطبعٍ رائعٍ، وينتجون جيلًا بارعًا من التقنيين. وفي المقابل لم يكن هناك أي أثر للنقد الذاتي.
وبعد بيدنكويف، لم يحدث أي تغيير يُذكر في تعامل الدولة مع اليمين المتطرف في الولاية. ففي 2007، هاجمت مجموعة يمينية متطرفة، عددًا من الهنود في بلدة بولاية سكسونيا. ورفضت السلطات آنذاك الاعتراف بأن الجريمة قد يكون دافعها عنصري، وقد كان دافع السلطات القلق من تشويه صورة الولاية!
قُبحٌ قديم
للحصول على صورة أفضل توّضح السبب الذي يبدو فيه أن الشرق الألماني على وجه الخصوص، يقدم الكثير من الصور القبيحة للنازيين الجدد العدوانيين، فلا بد من الغوص في سجلات التاريخ. حتى في ظل الحكم الشيوعي، وقعت المذابح في الولاية. قام مؤرّخ برلين، هاري وايبل، بالبحث في أرشيفات ألمانيا الشرقية، وسجل أكثر من 8600 حالة من الدعاية النازية الجديدة والعنصرية والمعادية للسامية والجرائم العنيفة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية)، ووجد أن 10 أشخاص على الأقل قد ماتوا.
خلال الحقبة الشيوعية، تم استيعاب الأجانب -كان معظمهم مما يسمى "الدول الشقيقة" من الكتلة الشرقية- في مجمعات الإقامة الخاصة بهم. ولم تكن سلطات الولاية ترغب بالفعل في دمج هؤلاء المقيمين الأجانب مع السكان المحليين. ويُظهر بحث وايبل أن 40 هجومًا عنصريًا على الأقل على هذه المجمعات جرت في ألمانيا الشرقية منذ عام 1975. وعلى النقيض من ذلك، أشار وايبل إلى أنه لم تحدث أي هجمات عنصرية موثقة ضد مباني الأجانب في ألمانيا الغربية حتى عام 1992.
تبدو الأسباب التي قدمها الباحث والمؤرخ وايبل للهجمات، مألوفة، وهي: الحقد الاجتماعي ووجهات النظر الداروينية الاجتماعية، فقد كان الأجانب يتعرضون للازدراء واحتقار عاداتهم باعتبارها "مثيرة للاشمئزاز". وقد انعكس عمليًا عدم رضا العديد من الألمان عن وضعهم السياسي والاقتصادي، في اعتداءاتهم على المهاجرين والأجانب، في ظل تجاهل السلطات الشرقية، وغض طرفها بشكل روتيني عما كان يحدث.
نفس الشعارات والعبارات المُستخدمة اليوم، كانت موجودة أيضًا في تلك الفترة، ففي عام 1987، اشتبك 50 من الألمان و50 من العرب في مدينة لايبزيغ، حيث كانت الحشود تردد شعارات: "ألمانيا للألمان"، و"اخرجوا من البلاد"، و"ألمانيا استيقظي". وفي بلدة مرسيبورغ، سحبت مجموعة من العصابات المتطرفة مجموعة من الكوبيين إلى نهر سالي المحلي، ما أدى إلى غرق اثنين منهم. لم يُتابع أحد على الإطلاق تلك الجريمة، وأغلق الملف وأوقف التحقيق بموافقة مكتب المدعي العام في ألمانيا الشرقية!
تناقضات غريبة
أجرى المعهد الألماني المنظم للاستطلاعات "Infratest dimap"، في صيف عام 2017، استطلاعًا للرأي على ألف ساكسوني نيابة عن مكتب الحكومة. وكشفت النتائج بعض التناقضات الغريبة، فقد اعتبرت الغالبية العظمى ممن شملهم الاستفتاء، أن سكسونيا ولاية ذات حكم جيد، لكنهم في نفس الوقت لا يثقون على الإطلاق في السياسيين. ويريد حوالي 81 % منهم المزيد من الديمقراطية المباشرة، لكنهم في نفس الوقت يميلون إلى الابتعاد عن المشاركة السياسية.
ويعتبر هؤلاء أن أكبر المشاكل التي تواجه الدولة، هي "سياسة اللجوء" و"الأجانب الأكثر من اللازم"، في مقابل الفقر بين كبار السن أو البنية التحتية العامة. كما اعتَبَر 56% ممن خضعوا للاستطلاع، بأن عدد الأجانب في الدولة بلغ حد "الخطر"، على الرغم من أن معظمهم قالوا بأنهم تقريبًا لا يحتكون نهائيًا بشكل شخصي بأي أجنبي، فيما يرغب 38% بمنع المسلمين من الهجرة إلى ألمانيا.
في الوقت نفسه، فمعظم من في الولاية راضون عن أوضاعهم المعيشية؛ عن عملهم وسكنهم وأوقات فراغهم. ويميل السكسونييون بشكل عام إلى التفاؤل بالمستقبل. مع ذلك يبقى كثير منهم على قناعة بأنهم لا يأخذون حقوقهم كما يجب، ويشعرون بأنهم يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية.
يقول هانز فورلاندر، وهو أستاذ في العلوم السياسية، إن "هذه الازدواجية هي النمط السائد في سكسونيا"، مقدمًا تفسيرًا يركز على مشاعر السكان التي استُخِفَّ بها بشكل ما، فيعرف أول استخفاف على أنه "استخفاف بتاريخ الولاية". يقول: "هناك سردية سكسونية محددة للغاية، تركز على كونها ضحية، فهي متجذرة في خرافة مدينة درسدن الباروكية البريئة الجميلة، والتي أحالها القصف الأمريكي والبريطاني أنقاضًا".
وقد عزز النازيون من هذه الخرافة، كما فعل حزب ألمانيا الشرقية الشيوعي. بل إن الولاية تستضيف حدثًا سنويًا يُخلد ذكرى تدمير دريسدن في 13 شباط/فبراير 1945. ومع كل عام، يصبح الشعور أكثر رسوخًا بين السكان أنهم كانوا ضحايا أحداث خارجة عن سيطرتهم.
ثم كان سقوط الشيوعية و"غزو الغرباء"، أي الألمان الغربييون، الذين يرون أنهم احتلوا مناصب مهمة في الدولة وتصرفوا دائمًا كما لو كانوا أفضل من الشرقيين في كل شيء. يقول فورلاندر: "هذه المرة، ساد الشعور بأنهم كانوا عرضة للاتسخفاف، وأنهم كانوا يعاقبون على أخطاء لم يرتكبوها، وقد ساد ذلك الشعور في الولاية كلها".
ثم أخيرًا، الاستخفاف الثالث، ألا وهو، بحسب فورلاندر، "هجرة أعداد ضخمة من المهاجرين المسلمين في 2015". وقد نظر السكسونيين إلى هذه الهجرة باعتبارها غزو أجنبي. يقول فورلاندر: "رأى الكثيرون هذا بمثابة الانهيار النهائي لعالم كان يُعرف نفسه بالسكسوني".
وتكمن المشكلة في أن السلطات تجاهلت هذه الاستخفافات، وتجاهلت كذلك الميل نحو اليمين الذي استتبع هذه الاستخفافات. حتى الطبقات الوسطى ظلت صامتة في معظم الوقت حول ما كان يحدث. يقول فورلاندر عن ذلك: "كان هناك افتقار إلى صوت حركي منظم ينتمي إلى الطبقة الوسطى، حتى يستطيع التعبير عن نفسه بوضوح"، فظهور المجتمع المدني بمؤسساته ومنظماته القوية، التي استغرقت عقودًا لتُبنى في الغرب بعد الحرب، لم يحدث على الإطلاق في ألمانيا الشرقية.
وقد عرّفت الطبقة الوسطى نفسها في بيئتها الداخلية عن طريق الفن والثقافة والعلم والأدب. هذا ما ظل عليه الأمر، على الأقل حتى أتى "الغرباء" من الغرب، وقلبو كل شيء رأسًا على عقب، بغرور وبدون تفكير، وفقًا لقواعدهم الخاصة. كان هذا، على الأقل، هو تصور العديد ممن خسروا نتيجة التغييرات التي لحقت إعادة توحيد ألمانيا في عام 1990.
الجماهير تثور مجددًا.. ودوليغ يواجههم بطاولة المطبخ
والآن تثور الجماهير مجددًا، إلا أن أحد السياسيين من الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني من وسط اليسار، وهو وزير الاقتصاد السكسوني مارتن دوليغ، يعتقد أن هنالك شيئًا واحدًا يمكن أن يساهم في استعادة السلوك الديمقراطي بين الناخبين على المدى الطويل، وهو أن يبدأ الناس بالتحدث مع بعضهم البعض.
يُعد دوليغ أحد السياسيين القلائل الذين جهروا بالقول بوضوح لسنوات، حين ثار متطرفو اليمين في الدولة، وهذا في جزء منه راجع لتجربة شخصية، ففي تموز/يوليو 2015، حطم متطرفون يمينيون سيارةً ظنوا أنها تحمل داعمين للاجئين، لكن من كان فيها حقيقة هو ابن دوليغ وأربعة ركاب آخرين.
ردًا على ذلك الحادث، بدأ دوليغ جولة حول البلاد للتوعية، استخدم فيها أسلوبًا غريبًا بعض الشيء، إذ كان يأخذ معه طاولة الطعام الخاصة بمطبخه، يقيمها في وسط حفل جماهيري، يجلس عليها المتناقشون؛ على ثماني مقاعد، مع قواعد واضحة للنقاش: عدم المقاطعة، والالتزام بالحقائق. عرفت تلك الجولات الـ44 التي قام بها دوليع بـ"جولات طاولة المطبخ".
إحدى تلك الجولات جاءت بعيد حادث الطعن التي راح ضحيته المواطن الألماني دانييل إتش في آب/أغسطس الماضي. وكان محور النقاش حول الطاولة هي كيمنتس بطبيعة الحال. قال دوليغ: "أنا محبط للغاية"، ثم أضاف أنه لا يملك إلا أن يتعاطف مع عائلة الرجل المقتول، لكن "لا أحد يملك الحق في أن يطبق العدالة بيديه"، كما شدد. ثم قال أيضًا: "مع ذلك، فالكفاح ضد التطرف اليميني، لا يمكن أن يتحمل مسؤوليته السياسيون وحدهم".
الكراسي دوارة على طاولة المطبخ الخاصة بدوليغ، يجلس عليها من يريد إبداء رأيه، أو خوض النقاش، ثم ينهض. وهذا ما فعلته امرأة طلبت أن تبدي ازدراءها لحزب البديل من أجل ألمانيا، ولم يكن ثمة مانع لدى الحاضرين، لولا أن حذرها أحدهم من الوقوع في فخ طريقة اليمين المتطرف في دفع مكونات المجتمع إلى الصراع.
ثم قال أحد ملاك المطاعم، لديه موظفون من جميع أنحاء العالم، إن الزبائن لا يريدون أن يخدمهم الأجانب، فأجابه أحدهم: "إذن فليرحل الزبائن"، مدافعًا عن سياسات الهجرة التي تنتهجها الحكومة الألمانية بالتذكير بشيخوخة المجتمع الألماني: "نحتاج إلى ذرية أكبر، فنحن لم ننتج ما يكفي بأنفسنا".
يشعر السكسونيين بأنهم قد استُخف بهم على مدار عقود طويلة، فهم يعيشون على سردية الشعور بالمظلومية وبأنهم مواطنين من الدرجة الثانية
وقد تردد ذكر حزب البديل من أجل ألمانيا مرارًا وتكرارًا في النقاش، فقطع دوليغ النقاش فجأة قائلًا: "إن حزب البديل من أجل ألمانيا ليس أكبر أعدائنا السياسيين. ولكنه الخوف. لذا علينا مواجهته بالأمل والثقة".
اقرأ/ي أيضًا: