1
أعرف أن الإسكندرية مدينة العجائب، قف على ناصية شارع "فرنسا"، أو شارع الأقمشة والخياطين، لتشم رائحةً كوزموبوليتانية بائدة قديمة تنتشر في كل ركن، تطاردك حتى ترفع رأسك لتجد معهد الموسيقى القديم الذي يشكو قلة رواده وعلى بعد مئة متر تقريبًا سوق "زنقة الستات" الذي لا يتسع لأربعة مارة يمشون فيه بالعرض. هي على أي حال الآن مدينة لا تمنح الفرح.
عرفت أن "سعاد" عروس الإسكندرية العجوز قررت أن تمشي بخطى واثقة في محطة الرمل، متخطية الستين بعام واحد، حاملة في يدها كيسًا بلاستيكيًا. كانت تريد أن ترتدي الأبيض وتمشي في شوارع المدينة لتحيط بها "الزفة الإسكندراني" المعروفة بصخبها وبهجتها، لكن ما أحاط بها كان سخرية الناس، وبعض التضامن الذي حمل أحدهم على "تمثيل" دور العريس إلى جوارها في القاعة، التي قررت أن تحجزها لعرسها التمثيلي.
في مصر، المجتمع لا يحب أن تفرح النساء، حتى لو زيفًا ووهمًا
لكن مجتمعًا لا يحب للنساء أن يفرحن، ولو حتى زيفًا ووهمًا، قبض على العروس في مشهد بالغ البؤس، وأمر بإيداعها دار العجزة أو المصحة النفسية. ربما أثارت حالتها مزاج ضابط عكر، يرى فيها جدته التي كبرت وخرفت، أو أخته التي فاتها قطار الزواج، فقضى أمر الله أن تستر نفسها في بيت بين أربع جدران باردة دون أن تعي الفرح، ولو حتى من باب اختراع السعادة.
اقرأ/ي أيضًا: هل القومية العربية مشروع رومانسي؟
2
في هذا البلد تُنتزع الحقوق انتزاعًا. خلع الشاب ملابسه وصعد فوق سطع المديرية، وهدد بخلع بقية ملابسه إن هو لم يحصل على الموتوسيكل الخاص به مجانًا.
القصة وما فيها أن الشاب سُرق منه الموتوسيكل الخاص به، وحين بحث عنه وجده في كراج خاص بالسيارات المسروقة التابعة للمديرية، وحين حاول استعادته بعد التعرف عليه، قيل له إن تكاليف استضافة الموتوسيكل على أرض حكومية 3650 جنيهًا، أي ما يعادل 250 دولارًا تقريبًا. ظل الضابط يساوم الفتى حتى خرج واعتلى سطح المديرية، وبدأ في خلع ملابسه هاتفًا بالفضيحة إن هو لم يستعد الموتوسيكل الخاص به مجانًا.
صحيح أن رجال الشرطة أنزلوه ووعدوه باستعادته، لكن من المؤكد أنهم قاموا معه بواجب مقدس لن ينساه داخل جدران المديرية. إنها هيبة الدولة!
3
في فيلم "الجزيرة"، في جزئه الأول، حين بدأ تاجر الأفيون (أحمد السقا) في العمل مع الحكومة، قام هو ورجاله بالقبض على بعض الجهاديين الذين يسكنون الأحراش في الصعيد. تم القبض عليهم فقال السقا لرئيس النيابة إنه من المفترض لهؤلاء أنهم تم القبض عليهم في الجبل. فقام رئيس النيابة (خالد الصاوي) بوضع قليل من تراب الأرض على رؤوس المقبوض عليهم، ثم قال ببساطة موجهًا حديثه إلى تاجر الأفيون "كده تم القبض عليهم في الجبل.. مافيش مشكلة"، ثم يستطرد "نحتاجهم لأن لدينا قضايا ليس فيها متهمين.. همة هيشيلوها". هكذا يتم كل شيء في مصر.
4
منذ قليل ورد خبر انتحار وائل شلبي، أمين مجلس الدولة السابق، المتهم بالرشوة من داخل محبسه. يرد إلى ذاكرتي فورًا مشهد في أحد أفلام نبيلة عبيد، وهو أهم أفلامها "كشف المستور"، الفيلم يروي قصة امرأة كانت تستخدمها المخابرات في "تخليص" بعض المهمات بطريق الدعارة. السيدة نبيلة يستدعيها أحد رجال المخابرات لتنفيذ نفس المهمة مع أحدهم. ترفض لأنها أصبحت سيدة مجتمع وتزوجت من رجل محترم، لكنها تجد نفسها فجأة في سريرها إلى جوار رجل لا تعرفه، مهددة بالاتهام في قضية دعارة . يقف الرجل الذي ينام جوارها فور وصول رجل المخابرات (فاروق الفيشاوي) ويقول له: "تمام يا فندم". ويخيّرها الرجل بين التهمة وبين تنفيذ ما يرغبون فيه.
منذ متى يُحاسب أي مُخطئ في مصر على شيء، ليخاف الرجل من العقاب وينتحر؟
اقرأ/ي أيضًا: عام جديد بإرث قديم
وجه آخر لتخليص المعاملات في مصر. السؤال الأهم الآن: إذا كان الرجل هو أحد رجالات الدولة، وفي جهاز تابع لها، فمنذ متى يُحاسب أي مُخطئ في مصر على شيء، ليخاف الرجل من العقاب وينتحر؟ القصة الهابطة تلك التي تم هرسها في ألف فيلم عربي سابق، وفي ألف قصة واقعية جديدة لا تدخل عقل رجل مصري ينام في الشارع في مصر.
في الفيلم المهم، الذي عرضته الـ"بي بي سي" عن حالات الانتحار في معسكرات الأمن المركزي "موت في الخدمة"، رُصدت أكثر من 13 حالة انتحار لم تكن أسبابها واضحة، ولا جرت فيها تحقيقات جادة. كل هؤلاء الشباب الأمي الساذج الذي أتى من أرضه وغيطانه الزراعية انتحر كراهية في الحياة!
وجه آخر "لإنهاء" الأمور العالقة. اللعبة الكبيرة قائمة كاحتفالات الموالد في مصر. الكل يتفرج، ويشرب في صحة القانون والدولة وهيبتها المباركة!
اقرأ/ي أيضًا: