بلغت الإثارة ذروتها في النسخة الثامنة من كأس العالم التي أقيمت في إنجلترا عام 1966، بعد تأهل 4 فرق من القارّة الأوروبيّة إلى المربّع الذهبي، فشكّل المنتخب البرتغالي الحصان الأسود للبطولة، لا سيّما وأنه بلغ هذا الدور في مشاركته الأولى، فسحق قطاره الذي لا يتوقّف المنتخب البرازيلي حامل اللقب الذي كان أبرز المرشّحين لنيل الكأس، وكان ضحيّته الأخيرة فريق كوريا الشماليّة عندما قلب تأخّره بثلاثة أهداف إلى فوز كان بطله اللاعب الملقّب باللؤلؤة السوداء أوزيبيو.
حقق الحارس الإنجليزي غوردون بانكس رقمًا قياسيًا لم يحطّم حتى الآن، إذ بقيت شباكه نظيفة طوال 721 دقيقة
كذلك لم يخيّب المنتخب الإنجليزي مستضيف البطولة أنصاره، فتأهل لدور نصف النهائي دون أن يلج شباك حارسه غوردون بانكس أي هدف، ولكنّ فريق الأسود الثلاثة عانى كثيراً قبل أن يتخطّى الأرجنتين في لقاء استفاد منه أصحاب الأرض بطرد قائد الفريق الخصم، حاله كحال ألمانيا الغربية التي أقصت الأوروغواي برباعية نظيفة، مستفيدة من طرد لاعبين منها، بينما تخطّى زملاء الحارس الأسطوري ليف ياشين المجر 2-1، بذلك حقق الاتحاد السوفييتي إنجازاً غير مسبوق بالوصول إلى المربّع الذهبي.
وفي الدور نصف النهائي ابتسم الحظ قليلاً أمام ألمانيا، فطُرد من الاتحاد السوفييتي شيسلينكو قبل أن يستغلّ الألمان أفضليّتهم العددية، حيث أنهوا اللقاء بالفوز 2-1، نتيجةٌ تكررت في المباراة الثانية، حيث تقدّم الإنجليز بهدفين لبوبي تشارلتون، وقبل نهاية اللقاء بـ8 دقائق استطاع أوزيبيو أن يسجّل هدف بلاده الوحيد من ضربة جزاء، وهو أوّل هدف يهزّ شباك الحارس الإنجليزي غوردون بانكس في المونديال، وبذلك حقق رقما قياسياً لم يحطّم حتى الآن، إذ بقيت شباكه نظيفة طوال 721 دقيقة، وذلك أمام فنلندا ويوغوسلافيا قبل انطلاق كأس العالم، إضافة إلى مباريات المكسيك والأوروغواي وفرنسا والأرجنتين في هذه البطولة.
رغم فشل الفريقين في الوصول إلى المباراة النهائيّة، إلا أن كلا المنتخبين رغبا بالظفر بالمركز الثالث وكأن المباراة الأخيرة لهما لا تقلّ أهمّية عن كأس العالم، فشكّل لقاء الاتحاد السوفييتي والبرتغال تحدّيا خاصّا بين ليف ياشين و أوزيبيو، فالأول يحمل رقماً خرافيّاً لم يُحطّم حتى الآن بعدد ركلات الجزاء التي تصدّى لها "150"، بينما استطاع أوزيبيو أن يكون هدّاف البطولة الأول برصيد 8 أهداف حتّى الآن، جاء 3 منها من ركلات جزاء، اعترف ياشين ذات مرّة أنه من أجل أن يحافظ على هدوءه الذي يرعب المهاجمين، كان يدخّن سيجاراً ويشرب كأساً من الفودكا قبل الدخول إلى الملعب.
ومع بداية المباراة المرتقبة بين الفريقين حصلت البرتغال على ركلة جزاء في الدقيقة 12، وكالعادة انبرى لها أوزيبيو، والذي اعترف لاحقاً أنه كان شديد الارتباك أمام الحارس الملقّب بالأخطبوط، لكن أحد زملاء اللاعب البرتغالي اقترب منه وطلب منه أن يتحلّى بالثقة، فلم يخيّب أوزيبيو ظنّ زميله وسجّل هدف بلاده الأول في اللقاء الذي أدرك السوفييت به التعادل قبل نهاية الشوط الأول، لكن النتيجة آلت للبرتغاليين في الدقيقة 89 عبر توريس، لتظفر البرتغال بالمركز الثالث لأول مرة في تاريخها بأول مشاركة لها، وهو المركز الأفضل الذي حققته برازيل أوروبا طيلة مشاركاتها المونديالية اللاحقة.
التقت إنجلترا مع ألمانيا الغربية قبل المباراة النهائية في 7 مناسبات، حيث تعادل الفريقان في مقابلتهما الأولى عام 1930 قبل أن يفوز الإنجليز بالمباريات الست اللاحقة، سجلّ تاريخيّ رائع يطمح الإنجليز أن يترجموه على أرض الملعب، لكن الكرة مدوّرة كما قال مدرّب ألمانيا الذي حقق كأس العالم عام 1954، والذي حلّ مكانه في هذه البطولة هيلموت شون، بينما كان في الجهة المقابلة المدرّب الإنجليزي آلف رامزي، وهو الذي عاصر لاعباً خيبة المشاركة الإنجليزية الأولى في المونديال عندما تلقّت بلاده صفعة مدوّية أمام أمريكا بكأس العالم 1950، وشكّلت هذه الخسارة غصّة في حلق رامزي الذي استلم زمام تدريب الفريق عام 1963، فألغى اللعب بالتشكيلة الرائجة آنذاك 4-2-4، واحتكم لأسلوب 4-4-2، فبات فريقه يلقّب بـ "فريق العجائب الخالي من الأجنحة".
احتشد في ملعب ويمبلي أكثر من 93 ألف متفرّج وعينهم على أغلى حلم اقترب تحقيقه، ولكن مع بداية المباراة وتحديداً في الدقيقة 12، استطاعت ألمانيا الغربية عبر لاعبها هالر أن تفتتح النتيجة، لكن جيف هيرست عدّل النتيجة بعد ذلك بـ6 دقائق، هذا اللاعب الذي سنحت له الفرصة في المشاركة مع بلاده بسبب غياب إصابة جيمي غريفيز أمام فرنسا في دور المجموعات، ورغم تسجيل هيرست لأهداف حاسمة في الأدوار الإقصائيّة، إلا أن شفاء نجم الهجوم الإنجليزي الأول غريفيز من الإصابة قبل المباراة النهائية جعل الصحافة والجماهير تطالب بإشراكه عوضاً عن هيرست، لكن المدرب رامزي رفض الخنوع لطلباتهم ومنح الثقة كاملة لهيرست.
ما زال الهدف الثالث لإنجلترا في شباك ألمانيا الغربية محل جدل دائم، فالألمان يصرّون على عدم صحّته عكس الإنجليز
استطاعت إنجلترا أن تسجّل هدف التقدّم قبل نهاية المباراة بـ 12 دقيقة، فاعتقدت الجماهير أن حلمها قد تحقّق، قبل أن تسكت جميعها وهي تشاهد اللاعب الألماني فيبر وهو يعدّل النتيجة قبل النهاية بدقيقة واحدة، وهنا لجأ الفريقان لوقت إضافي استطاع به هيرست الذي راهن عليه المدّرب أن يضيف هدفين في الدقيقتين 101- 120، علماً أن الهدف الثالث للإنجليز يصرّ الألمان على عدم صحّته بذريعة عدم تخطّي كرة هيرست لخط المرمى بعد ضربها بالعارضة، بينما يقسم الإنجليز جهد أيمانهم بصحّة هذا الهدف.
وهنا ختم هيرست أحزان الإنجليز وقاد بلاده لتحقيق حلمها الكروي الذي طال انتظاره بتسجيله 3 أهداف في المباراة النهائيّة، وهو أغلى هاتريك في تاريخ كرة القدم حتى الآن، والهاتريك الوحيد في المباريات النهائية لكأس العالم، والذي احتفل به الإنجليز تلك الليلة إلى درجة أبعد من الثمالة، وما زالت المتاحف الرياضية تغصّ بالكثير من الصور والتذكارات المتعلّقة بتلك المباراة التي تربّعت بها إنجلترا شرعاً على عرش كرة القدم في العالم، لدرجة أن جمعية خيرية اختارت عام 2016 في الذكرى الخمسين لنهائي ويمبلي استحضار صور وذكريات من النهائي، وذلك من أجل تحسين أداء ذاكرة مرضى الزهايمر الإنجليز، وكانت المفاجأة أن استجاب أغلب المختَبَرين بطريقة إيجابيّة جدّاً، فتحدّثوا بشغف عن ذكريات ذاك اليوم الماطر الذي سجّل به هيرست أهدافه الثلاثة.
لقد كانت النسخة الثامنة من كأس العالم 1966 مليئة بالمشاهد العفوية، ومفعمة باللحظات المؤثرة، وغنيّة بالتفاصيل التي شكّلت فارقاً بتاريخ كرة القدم، فهنالك أحداثٌ وأرقام غريبة لم تتكرر، فماذا عنها؟
تابعونا في الجزء القادم من قصة كأس العالم 1966..