"السجن أرض خصبة للأساطير، لا شيء يؤكد القصص أو ينفيها، لكنّها تجد طريقها من عنبر إلى عنبر، توّرثها كل سجينة لمن تأتي بعدها، وتترسخ كتُراث للمكان وأهله". على ما يبدو أن ذلك التصوّر كان يسير جنبًا إلى جنب مع الصحفي المصري أحمد خير الدين، أثناء تسجيله للعديد من الحكايات لمعتقلين حقيقيين، قصص دوّنها في مجموعته القصصية الأولى "من الشباك" (دار الشروق، 2017). العنوان يقصد عربة الترحيلات وما يصاحب سجنائها من شعور، رغم إننا "لا تعلم إن كانت هذه القصص واقعية أم أنها من إبداع كاتبها؟ أو ربما هي مزيج بين الواقع والخيال" كما يقول الكاتب، لكن الأكيد أن ثمة تعاطف يمكن أن يحدث بينك وبين هؤلاء الضحايا.
في "الشبّاك"، يروي أحمد خير الدين حكايات معتقلين حقيقيين
إذن فإن مكان هذه القصص لا يتغير، يجمع بينهم "سيارة زرقاء ضخمة، ظلام، ضِيق تنفّس، ورائحة عطنة. حيث أن بداية اللحظة التي تدخل فيها تلك العربة هي بداية طريقهم إلى المجهول". إلا أن الأزمنة نفسها مختلفة والأشخاص وأسباب وجودهم أيضًا متغيرة، بينما يمكننا أن نحدد خلال رحلتنا ثلاثية من المشاعر يتأرجح عليها الجميع؛ الخوف والوحدة والأمل، فالجميع يعبّر عن ما يشعر به داخل عربة الترحيلات من هذا المنطلق. تنتهي من قصة وتبدأ في أخرى دون أن تفقد الخط الفاصل بين تلك المشاعر.
اقرأ/ي أيضًا: القصّة القصيرة.. سلطة الهامش
ثمة تخوّف كان لدى البعض بعد إخفاق ثورة 25 يناير، عن عودة ما يمكن تسميته بـ"أدب السجون" أو قصص المعتقلين من الشباب والشيوخ والنساء، لما يمكن أن يسببه من ضرر وحزن ربما يفوق هدفه الرئيسي من دعم وتوثيق لتلك الأحداث التي تشهد على البطش والظلم، إلا أن قصص "من الشبّاك" حاولت قدر الإمكان أن توازن تلك المعادلة ولو قليلًا؛ عن طريق الأمل "الحقيقي" الذي يتحدث من خلاله العديد من شخوص تلك القصص بالرغم مما يحمل هؤلاء من مآس وظلم بيّن. بالتالي يمكنها أن تجعلك تتحرّر كقارئ مع عدد من أبطالها "الذين لا تُحتمل خفّتهم" بتعبير كونديرا، أو ربما كان ذلك الأمل "وهمي ومتخَيّل" باعتباره من إضافات الكاتب التي تحاول رفع السوداوية عن الأمر نوعًا ما.
لكننا في النهاية يمكننا أن نعتبر تلك الحكايات دليل الهزيمة الأوّل على ثورة يناير، شباب تُحكَى قصصه وهو في طريقه للحكم عليه في قضايا غالبًا لا يعرف عنها شيئًا، ولا تدري إن كنت تضحك لهم أم عليهم؟ تخاف مما يواجهونه أم من تعرضك شخصيًا لنفس المصير، الظلام يسير مع الأبطال ومع القارئ، الجميع يحكم بقلبه ويتصرف وفقًا لذلك، وربما تكاد تكون أقوى مميزات الكتاب؛ إنه حاول توثيق مشاعر شباب الثورة وبناتها وأسرها، إلى جانب نظرة الصحفيين، وأمناء الشرطة وضباطها، وحتى لم يغفل دور المساجين القدامى، أو قصة السيدة المؤبدة في قصة "يوم في الشارع". وهو ما يجعلك تشعر أنه يمكنك كقارئ أن تكون أحد هؤلاء إذا لم تكن قد كنت أحدهم بالفعل ذات مرة.
في "من الشباك"، نرى شبابًا تُحكَى قصصه وهو في طريقه للحكم عليه في قضايا غالبًا لا يعرف عنها شيئًا
اقرأ/ي أيضًا: قاسم مرواني.. نسيج حكائي للعبث
قطعة صغيرة من الضوء هي التي يُسترق منها النظر إلى الخارج "شباك عربة الترحيلات" في موقف لا يحسد عليه أصحابه، الجميع يترك ماضيه ومستقبله خلفه ناظرًا للمجهول ويخاف من هذا العالم الجديد كما يخاف أكثر من التأقلم عليه، حتى إن الكاتب نفسه يؤكد ذلك على لسان أحد أبطاله بأن "أكثر ما يؤلم هو الاعتياد والتكيف، تتحول المشاعر تجاه الشباك، وتتأقلم اليد على الكلابش، وتعتاد العين على الضوء الخافت، والشعور الدائم بالوحدة. وأن كل تفصيلة أو لفتة أو مجرد تلاقي أعين ينقل لك شعورًا عامًا باحتقارك، أنت مجرم، والإهانة تصل إليك في كل حركة".
كتاب "من الشباك" يمكن أن نعتبره توثيقًا لمشاعر إنسانية مشتركة أكثر من كونه أي شيء آخر، مشاعر أساسها الحب لبشر لا يعلمون حتى أسماء بعضهم البعض.
اقرأ/ي أيضًا: