لفَتني ذلك الجدل الذي أثير مؤخرًا حول الفنانة شيرين عبد الوهاب وقصَة الشعر على الزيرو التي ظهرت بها أمام جمهورها في حفلها الأخير بعد إعلان انفصالها عن زوجها، فخبر قَصة شيرين أورد إلى ذهني مَقطع شِعري للشاعر نزار قباني يقول فيه: صغيرتي إن عاتبوكِ يومًا كيفَ قصصتِ شَعركِ الحريرا... قولي لهم: أنا قصصتُ شَعري لأنّ من أحبّه يُحبّه قصيرا".
الملفتِ في خبر قَصة شعر شيرين أنّه خبر تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي بكثافة، وتناولته العديد من البرامج الإعلامية الشهيرة
وما أن ورَد إلى ذهني هذا المقطع حتى أطلقتُ قهقهة داخلية وقلتُ لنفسي: إنّه في سياقات عربية واقعية معايَنة فإنّ قيام المرأة بقصّ شَعرها هو فِعل يُأتي في سياقات أكثر تعقيدًا من رغبتها في إرضاء حبيبها، فهذا الفِعل الذي يُلبسه نزار في مقطعه أثواب البساطة قد يُصبح في بعض الأحيان –كما هو الحال لشيرين- مسألة جدلية يتناولها القاصي والداني ويتحدّث عنها الجميع.
اقرأ/ي أيضًا: قَصّة شيرين تتفاعل.. جدل مستمرّ وتضامن واسع
إنّ الملفتِ في خبر قَصة شيرين أنّه خبر تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي بكثافة، وتناولته العديد من البرامج الإعلامية الشهيرة. وإنّ المُلفِت في مسألة تناقل الخبر هو مواقف المتناقلين له والمعقبين عليه، والذين انقسموا وتعدّدت آراؤهم حول فعل شيرين وانقسموا ما بين مؤيد للفعل ومعارض له.
وبغض النظر عن السياقات الزوجية الخاصة التي ربّما كانت السبب الأول وراء قرار شيرين بقصّ شَعرها على هذا النحو، فإنّ هذا المقال يأتي بغرض مناقشة المسألة في سياقات أعمّ ومحاولة أخذ فِعل شيرين الخاصّ (حقّ المرأة في التصرّف بشعرها) والذي له ظروفه وتسويغاته والتعامل معه باعتباره جزءًا لا يتجزّأ من حقّ المرأة العام في التصرّف بجسدها ككلّ (ومن ضمنه شَعرها)، كما شاءت وكيفما شاءت.
وضمن السياق السابق، فإنّ الباحث لطيف زيتوني يُورد في بحثه حول "الحساسية الوجودية في الرواية النسوية في الستينيات"، مقطع يستحقّ الوقوف والتأمّل، حيثُ يقول زيتوني في بحثه هذا: "تطرح بطلات روايات الستينيّات على أنفسهنّ وعلى محيطهنّ سؤالًا بسيطًا: هل ذاتي ملْك لي أم ملْك لسواي، هل أنا حرة أم مملوكة؟ ثم يُجبن عن السؤال بجواب بسيط: ما دمتُ حرة، فمن حقّي أن أكون مسؤولة عن نفسي، وأن أتصرّف بأشيائي، وأرسم مستقبلي بنفي دون تدخّل من أحد.
تطرح بطلات روايات الستينيّات على أنفسهنّ وعلى محيطهنّ سؤالًا بسيطًا: هل ذاتي ملْك لي أم ملْك لسواي، هل أنا حرة أم مملوكة؟
هذا الجواب البسيط في الظاهر ليس كذلك في الواقع، أو هذا ما اختبرته لينا فياض بطلة رواية "أنا أحيا" لليلى بعلبكي. تبدأ هذه الرواية بسؤال: "لمن الشعر الدافئ المنثور على كتفي؟ أليس هو لي، كما لكلّ حيّ شعره يتصرّف به على هواه؟". وما دام الجواب المتوقّع إيجابيًا بالبديهة، تتخذ لينا القرار بقصّ شعرها. فإذا بها تُفاجأ بما لم تتوقّعه. فاجأتها ردّة فعل أمها: "متى قصصتِ شعرك الجميل؟ لماذا مسختِ هيئتكِ الرقيقة كرأس صبيّ شري؟"، ثمّ ردة فعل أبيها: "ابتعدي، اغربي عن وجهي، لا تدعيني أراك قبل أن يطول شعركِ". هكذا اكتشف وعي لينا الواقع، فوجدته منافيًا للمنطق الطبيعي، ومناقضًا لمبدأ الحرية. ولم تجد غاية له سوى الاستتباع والسيطرة، ولا نتيجة سوى القهر. فحملها ذلك على التمرّد والمقاومة دفاعًا عن حقّها في الحرية. والشَّعر من عناصر الأنوثة، أخضعته التقاليد لقواعد التحليل والتحريم. فصار التصرف الحرّ به، بالقصّ مثلًا، قطعًا للحبل السري الذي يربط الفتاة بنظام المجتمع ومفاهيمه ونواهيه. ولهذا لم يكن فعل لينا وفعل ريم بطلة رواية "أيام معه" أيضًا، أمرًا شخصيًا بسيطًا، بل كان خطوة نحو ممارسة حرية القرار".
اقرأ/ي أيضًا: شيرين نشأت وأزمة الجسد الإيراني
إنّ زيتوني في قوله السابق يأتي ليؤكّد بأنّ العديد من الروائيات العربيات إبان فترة الستينيات حَرِصن على إظهار بطلات روايتهنّ في صورة نساء يقمنَ بفعلِ قصّ الشَعر في صورته القصيرة كنوع من أنواع إظهار التمرّد على الصورة النمطية السائدة للأنثى والتي تُوجب عليها أن يكون شَعرها طويلًا، بل إنّها تربط بين الأنوثة والشعر الطويل.
وتبعًا لذلك، يُمكن القول بأنّه في سياقات الثقافة العربية مثلًا فإنّ المثَل الشعبي "تاج جمال المرأة شَعرها" هو مثَل يأتي ليكرّس هذه الصورة النمطية للمرأة والتي تقرن بين شَعرها وأنوثتها، وتفترض أنّ الأنوثة مشروطة بمنظر الشعر الطويل للمرأة.
إنّ هذا المثل وغيره من الأمثال والأقوال الواردة في الثقافة العربية على وجه الخصوص هي أمثال وأقوال تأتي جميعًا في خدمة الصورة النمطية للجسد الأنثوي المثالي والمعايير الحاكمة له، وإنّ الصورة النمطية للجسد الأنثوي هي صورة مرتبطة بمصطلح النموذج المثالي للجسد (Ideal Body Shape) وهذا المصطلح هو مصطلح ساد كثيرًا في وسائل الإعلام التقليدية والحديثة في السنوات الأخيرة، ويأتي ليشير إلى نمط معيّن للجسد عليه أن يتصّف به لكي يكون جسدًا مثاليًا.
إنّ هذه الصورة النمطية للجسد الأنثوي المثالي والتي يُروّج لها مصطلح النموذج المثالي للجسد هي صورة سائدة في المستويات العربية كما في المستويات العالمية، وهي صورة أثّرت وما زالت تؤثّر على تؤثّر على كيفية إدراك الإناث من النساء والفتيات لأجسادهنّ ومدى رضاهنّ عنها، حيثُ إنّها تدفع بالعديد منهنّ إلى الوقوع في فخّ الإدراك السلبي لصورتهنّ الجسدية، بما يؤدي إلى زيادة قلقهنّ واهتمامهنّ بجمالهنّ ومظهرنّ الجسماني.
إذا كان اهتمام المرأة بصورتها ومظهرها في الحالات الطبيعية هو أمر صحي وواجب عليها، فإنّه يكون مرضيًا وخارج عن الأطر الطبيعية في الحالات التي يَكون إدراك المرأة لذاتها سلبيًا فيها
وإذا كان اهتمام المرأة بصورتها ومظهرها في الحالات الطبيعية هو أمر صحي وواجب عليها، فإنّه يكون مرضيًا وخارج عن الأطر الطبيعية في الحالات التي يَكون إدراك المرأة لذاتها سلبيًا فيها. وضمن الإطار السابق، يُمكن القول بأنّ الكيفية التي تنظر بها المرأة لجسدها وتُدركه تنقسم ما بين نظرة إدراكية إيجابية لجسدها ونظرة أخرى سلبية عنه.
اقرأ/ي أيضًا: 9 نساء قويات من أزمنة أقل نسوية
إنّ نظرة الأنثى الإدراكية الإيجابية لجسدها تحدث عندما تدرك الأنثى جسدها بشكل واضح وواقعي وحقيقي، بعيدًا عن أي صور مثالية، بحيث تتقبّل شكل جسمها لأنّها تعرف بأنّ الأجسام تظهر في عدة أشكال وأحجام، وأنّ هيئتها الجسمية لا تعكس قيمتها الحقيقية الكامنة في جوهرها وفي صفتها ككيان إنساني متعدد الأبعاد، وهو الأمر الذي يزيد من ثقتها بنسفها وتقديرها لذاتها. أما نظرة الأنثى الإدراكية السلبية لجسدها فهي نظرة تحدث عندما تُدرك الأنثى جسدها على نحو منحرف وبعيدًا عن الواقع، بالاستناد وعقد المقارنات مع الصور النمطية السائدة حول الجسد الأنثوي المثالي، حيثُ يزداد شعورها بالخزي والعار من شكل جسدها الحالي، ويُصبح جسدها هو المحور الذي تختزل فيه كيانها كلّه، بحيث تشعر بأنّ جماله المثالي هو وحده من يجلب لها التقدير والاحترام، بما يؤدي إلى انخفاض ثقتها بنفسها وتقديرها لذاتها.
وإنّ هناك حوارية جميلة تَرد في المسلسل السوري "عَصيَ الدمع" بين بطلة المسلسل وحبيبها الجالسين على مائدة في إحدى المطاعم، تُأتي هذه الحوارية كنموذج للإدراك الإيجابي للمرأة عن ذاتها وجسدها، ويقول متن هذه الحوارية:
"-شايفك ما أكلتي منيح، شو عاملة رجيم؟
-أنا، لا أبدًا أنا ولا مرة عملت رجيم، وبعمري ما حرمت حالي من أكلة بحبها حتى لو بتسمِّن.
-أوف، وليش ماخدة كل هاد الموقف من الرجيم؟
-لإنّه بحسّ فيه استلاب حقيقي للمرأة.
-أوف، حتى بقصة الحميات الغذائية والرجيم، بدك تعملي فيها قصة مرا ورجل؟!
-لإنه برأيي هوي هيك، التركيز على نموذج المرأة النحيفة بعروض الأزياء هوي تعبير عن هوس بخضوع النساء أكتر من التعبير عن هوس بإبراز جمالُنْ، في مرة قريت إنو الرجيم يُعتبر من أقوى المسكٍّنات السياسية يلي عرفها تاريخ المرأة لإنّه لما المرأة بتصير ساكنة وهادية بالضرورة بتصير مطيعة".
تقع نظرة شيرين إلى جسدها ضمن نطاق الإدراك السلبي للجسد، حيث تتصرّف المرأة بجسدها وهي محكومة بالنظرة الذكورية لهذا الجسد
وفي موضع آخر من نفس الحوارية تقول البطلة لحبيبها: "فكرة تذكير النساء بشكلُنْ ومظهرهُنْ الخارجي هو قمة الهيمنة الذكورية لإنه بشيئُهنْ، بحوِّلُنْ لكائن يُنظر إله، حتى وجودنْ بصير مرتبط ومرهون بنظرة الرجل، إذا اطلَّع كانوا وإذا ما اطلَّع كإنن مانن موجودين، الهيمنة هون هيمنة رمزية، والعنف هون مغلّف بالاختيار الجمالي".
اقرأ/ي أيضًا: عالَمٌ بلا نِساء!
أخيرًا فيُمكن القول بأنّ المقطع الأخير من الحوارية السابقة يأتي بمثابة تلخيص لكيفية إدراك المرأة لجسدها وتعاملها معه، حيثُ أنّ إدراكها الإيجابي له يَبرز في اختيارها الحرّ بالاعتناء الذاتي به وبتقاسيمه وتفاصيل جماليته، فهذا الإدراك الإيجابي يجعلها تتعامل معه بعيدًا عن النظرة النمطية السائدة والمفروضة عنه مجتمعيًا وعرفيًا وعالميًا حتى، وهو الأمر الذي يَجعلها تتصرّف به وفقًا لأهوائها ورغباتها وحاجاتها التعبيرية عن نفسها، أما الإدراك السلبي للمرأة لجسدها فيبرز في اطر مناقضة تختار فيه المرأة الاعتناء بجسدها أو إظهاره بمظهر معين بقصد مطابقة الصورة النمطية السائدة والمفروضة عنه، تلك الصورة التي تأتي لتلبية رغبات الرجل وإرضاء ذوقه وكيفية إدراكه لتفاصيل السحر والجاذبية في الجسد الأنثوي.
ويُمكن التأكيد –ضمن هذا الإطار- بأنّ التصريح الذي أطلقته شيرين وبرّرت فيه قصّها لشعرها بأنّها لم تعد راغبة في الظهور بمظهر الجميلة بعين زوجها، وأنّها قامت بفعلتها لإتمام وضع الانفصال؛ يُمكن التأكيد على أـنّ هذا التصريح يأتي ليعكس أنّ شيرين تبتعد بدرجات كبيرة عن الإدراك الإيجابي للأنثى عن جسدها، فنظرة شيرين إلى جسدها هي نظرة تقع ضمن نطاق الإدراك السلبي للجسد، وهي تلك النظرة التي تتصرّف فيه المرأة بجسدها وهي محكومة بالنظرة الذكورية لهذا الجسد وطبيعة تحديداتها حول التفصيلات الجمالية فيه.
اقرأ/ي أيضًا: