من الصعوبة فهم الأزمة السياسية اليوم في منطقة الخليج، دون العودة للتاريخ وترسبات الماضي، كما يصعب كذلك فهم عمق الصراع والتنافس دون استحضار معطى"القبيلة" ومنطق أبوية ووصاية "شيخ الجماعة" على باقي العشائر، كعامل حاضر وبارز بشكل جليّ في صناعة القرار السياسي بهذه الرقعة الجغرافية بالخصوص.
كانت السعودية تعتبر قطر وباقي الإمارات الخليجية الأخرى، ملحقات وامتداد لنطاق حكم أسرة آل سعود الحيوي
صحيح أن تكهنات عديدة صاحبت التوتر الحالي، والذي قد يفضي مع تزايد التصعيد إلى أزمة أكبر من التدخل العسكري سنة 1996، حيث رأت بعض المصادر من الدوائر الضيقة أن مرد ذلك هو الرفض القطري لدفع حصتها المالية من "الفدية"، أو المقابل المالي المباشر الذي طلبته إدارة ترامب من السعودية مقابل الحماية، أو ما تمت تسميته دبلوماسيًا بالمساعدة على مواجهة إيران، وهذا احتمال وارد جدًا، خاصة وأن الأسباب والدواعي الأخرى المعلنة لتبرير القطيعة الحالية كانت مطروحة من قبل، وليست وليدة ما بعد زيارة ترامب.
اقرأ/ي أيضًا: مغردون يرفضون قطع اللعلاقات مع قطر.. استجهان القرار وانتباه لبهجة إسرائيل
لكن من يعرف طبيعة تفكير وعقلية الحكام في الخليج والسعودية بشكل خاص، سيعرف أن هذا العامل، إذا ما كان صحيحًا، فهو مجرد القشة التي قصمت ظهر البعير فقط، وذلك بسبب كون العلاقة المتوترة مع قطر بالذات، ليست وليدة هذه السنوات الأخيرة فقط، ولكن هو صراع منذ استقلال الأخيرة عن الاحتلال البريطاني، إذ سعت الأسرة الحاكمة الحالية ومنذ 1972، إلى بناء دولة مستقلة عن منطق "شيخ القبيلة" أو كبير القوم، الذي كان يمارسه النظام السعودي على باقي الأنظمة الأخرى في منطقة الخليج وليس فقط في قطر.
فالسعودية كانت تعتبر قطر وباقي الإمارات الخليجية الأخرى، ملحقات وامتدادًا لنطاق حكم أسرة آل سعود الحيوي، إذ غالبًا ما كان الملك في السعودية يتعامل بمنطق الوصي وكبير القوم الذي لا يجب أن يُرد له طلب أو يكسر له خاطر.
وقد كان التعامل مع قطر بالذات يميزه التوجس والحذر الدائم، والعكس صحيح، خاصة وأن السعودية كانت تعتبر قطر جزءًا تاريخي من منطقة الأحساء، كما أن الإمارات بقيادة راشد آل مكتوم شيخ إمارة دبي ومعه زايد آل نهيان شيخ إمارة أبوظبي، سعيًا إلى إقامة تحالف واسع من القبائل في هذه المنطقة لتوحيدها في دولة واحدة قبيل رحيل بريطانيا في أواخر الستينات، لكن قطر والبحرين قررتا الاستقالة عن هذا التجمع القبلي الذي سيطلق عليه فيما بعد الإمارات العربية المتحدة، وهو ما جعل دائما من قطر بمثابة "الابن العاق" الذي يجب مراقبته واحتواء تصرفاته وفق منطق الاستقواء السعودي.
محاولات السعودية لفرض الوصاية
وبالعودة للتاريخ سنجد أنه منذ تأسيس الدولة السعودية الثالثة منذ عام 1932 وهي تسعى سعيًا حثيثًا لفرض الوصاية على باقي الأسر والقبائل الكبرى، والتي ستتخذ فيما بعد شكل دول، وقد كان ذلك بمساعدة من بريطانيا خاصةً في المرحلة الأولى، إذ مكنت الأخيرة آل سعود من حكم ذاتي واستقلال نسبي عن الدولة العثمانية، مع منح حكمها الحماية من القبائل المنافسة لها في الحكم، خاصة "قبيلة آل رشيد" ذات النفوذ الكبير.
واستمرت الحماية البريطانية لآل سعود لتتطور بشكل أكبر مع اكتشاف البترول سنة 1938، وهو العامل الذي مكّن الأسرة من الاستفادة من العائدات الضخمة لاستتباب الوضع واستقراره والتفرغ بالسلطة. واستمر هذا الأمر حتى مع نهاية النفوذ البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية، والذي حلّ محله الأمريكي في الخمسينيات، والذي أصبح هو الذي يمنح الحماية لحكم الأسرة مقابل ضمان الاستفادة من الصفقات، وكذا إمدادات البترول، مع بعض المزايا السياسية الأُخرى في المنطقة، بما يُشكل صفقة غير معلنة لحماية حكم الأسرة.
مشكلة السعودية مع قطر تاريخية وقبلية، لأن قطر اتخذت منذ استقلالها مسارًا مختلفًا ومستقلًا عن الباقين
استمر هذا الأمر مع المرحلة المعاصرة، حيث كانت السعودية دولة تابعة نفوذيًا للمعسكر الغربي وحامية لمصالحه في المنطقة، خاصة في جانب ضمان انسيابية إمدادات الطاقة، وفي المقابل فهي تمارس نوعًا من النفوذ والأبوية العكسية على باقي الدول الأخرى، ولم تكن يومًا تقبل أن يخرج إحداها عن الخط والطاعة.
لذلك فمشكلتها مع قطر من منظور تاريخي وقبلي، لأن الأخيرة اتخذت منذ استنقلالها مسارًا مختلفًا ومستقلًا عن الباقين، وربما يكون للأمر أيضًا علاقة بالأطماع السعودية التاريخية في قطر، لذلك اتجهت الإمارة لإقامة دولة بمنطق الحياة العصرية وبسياسة مغايرة ومستقلة كليًا عن الآخرين، ما يشكل في الأعراف القبلية تمردًا وخروجًا عن وصاية شيخ القبيلة!
اقرأ/ي أيضًا: تقدير موقف: أزمة العلاقات الخليجية القطرية.. في أسباب الحملة ودوافعها
وفيما يبدو فإنّ هناك اتفاقًا إقليميًا برعاية جهة دولية لتحجيم دور قطر وتقليص نفوذها الإقليمي إلى أقل درجة ممكنة، وفي ذلك تمكين للرؤية التاريخية لقطر، التي تراها مصدر قلق على الإجماع الخليجي الذي تقوده السعودية، ويرون في سياساتها الداعمة للثورات العربية ولحركات المقاومة خروجًا عن القرار السياسي لدى أنظمة الحكم في دول الخليج، القرار الذي يشكل في عمقه تنفيذًا للسياسات الغربية بالمنطقة، والتي تعتبر السعودية المحتضنة لها.
وما يجعل المشكل اليوم أكبر بكثير من أزمة مواقف واختلاف رؤى بين هذه الدول، هو أن الأسرة الحاكمة في السعودية اليوم، لم تكن يومًا سيدة قرارها، فهي أسرة لم تستطع يومًا أن تؤسس دولة مستقلة بشكل حقيقي، ولم تستطع منذ نشأتها أن تتخلص من الحامي الغربي، ويوم قال القذافي إن "السعودية صنعتها بريطانيا وحمتها أمريكا"، فهو قال ذلك والكل يعلم أن تلك هي الحقيقة التي لا يستطيع أي أحد أن يدحضها، فالسعودية بقيادة آل سعود لا يمكن أن تستمر في الحكم لو تخلت الولايات المتحدة عن حمايتها، فحتى الصفقات الاقتصادية الأخيرة مع ترامب كانت لغرض وهدف واحد هو "الحماية"، والجميع يعلم ذلك.
فاليوم على سبيل المثال عندما تتخذ هذه الدولة من إيران كـ"شيطان" وحيد أوحد، لمواجهته فعلينا أن نعلم أن سبب صعود هذا العداء للدرجة التي عليها اليوم، هو رغبة في نيل الرضا الأمريكي، إذ إن أمريكا تنظر لإيران على أنها مكمل ثلاثي محور الشر في العالم، فالسعودية تلقائيًا تبنت ذلك، وهو ما يجعل الأخيرة مجرد منفذة للمخطط الأمريكي بالمنطقة، وحامية له، لا أقل ولا أكثر، ودون أن تملك أي تصور أو أي مشروع خاص بها على الواقع.
لم تكن الأسرة الحاكمة السعودية يومًا سيدة قرارها، ولم تستطع تأسيس دولة مستقلة بشكل حقيقي، كما لم تستطع الاستغناء عن الحامي الغربي
لكن خطورة الأزمة الحالية أنها قد تكون مجرد بداية للمخطط القديم الجديد للمنطقة، وحتى مباركة إسرائيل لخطوات الرباعي السعودي الإماراتي المصري البحريني ورد الفعل الجاف والفضفاض للإدارة الأمريكية، كلها مؤشرات توحي بأن الأمور تمت بتخطيط ومباركة وتغطية مسبقة.
اقرأ/ي أيضًا: قطع العلاقات مع قطر.. كل شيء عن مؤامرة أبوظبي
ربما الكثير لا يزال ينظر إلى أن القاعدة الأمريكية في قطر ستكون حدًا منيعًا لأي اصطدام عسكري، وأنها ستشكل صمام أمان إذا ما فكر الرباعي الأول في عمل أكبر، لكن نعتقد أن أمريكا يمكن أن تتخلى عن أي حليف إذا ما بدت لها مصلحة في حليف جديد، لكن الأمر الأكثر خطورة الذي لم ينتبه له جيران الدوحة، هو أنه صحيح أن القاعدة ربما لن تحمي قطر، ولكن لن تستطيع كذلك تلك القواعد الأمريكية في الدول الأخرى حماية أنظمتها.
اقرأ/ي أيضًا: