عندما قرر الفرزدق أن المرأة إذا قالت شعرًا يجب أن تُذبح، فإنه كان أحد الخاضعين والمؤسسين لنسق شعري عربي صارم يعتبر الشعر من نصيب الذكور فقط، ولا مكان للمرأة فيه. عندما قال جملته الشهيرة في امرأة قالت شعرًا: "إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها" فإن النقاد العرب آنذاك، وحتى العصر الحديث، لم ينظروا إلى تلك المقولة - النسق نظرة نقدية، بل تم تداولها بشيء من الانتشاء.
قسّم النقاد العرب الشعراء إلى طبقات أعلاها وأكثرها حماية هي طبقة الفحول، مع ما تحيل إليه مفردة الفحل من ذكورية قصوى وسلطة متفجّرة. في العربية يوصف الرجل شديد البأس بالفحل، وكذلك "زير النساء". ارتاح تاريخ الشعر العربي لهذه التقسيمات واعتنى بها وطورها، فأضاف إليها ووضع حراسًا على بوابتها فلا يدخلها إلا من حقق شروط النسق الذكوري - شروط الفحولة. ومن هذه الشروط ليس الصياغة أو الصناعة الشعرية والمهارة في الأداء فقط، بل ظهور التسلط في القول، فلم يدخل ذو الرمة، كمثال، مملكة الفحولة لأنه لم يمدح ولم يهجُ كما ينبغي للفحول، كذلك تم استبعاد عمر بن أبي ربيعة لتغزله بالنساء، وهذا يعتبر نوعًا من الضعف الإنساني لا تدرجه الغطرسة الذكورية الشعرية في أبوابها.
لو أحصينا عدد الشاعرات اللواتي ظهرن خلال رحلة الشعر العربي الحديث مقارنة بعدد الشعراء الذكور، فإن النتيجة ستكون شبه انعدام لهن
وقد أُعجب شعراء العصر الحديث ونقّاده بهذه الفكرة وراقت لهم لأنها تدعّم ذكوريتهم وتعاليهم عن الناس وحركتهم في اتجاه الحياة، فأعادوا صياغتها مرة تلو الأخرى، وحدّثوها بحيث تفتح أبوابها لبعض شعراء الحداثة، وتغلقه في وجه آخرين! كأن الزمن البطريركي للشعر لم يتغير، بل على العكس تم تعميقه وتعميق البنية التي تنتجه وتعيد إنتاجه بلا نهاية.
اقرأ/ي أيضًا: أمجد ناصر.. أسرارُ الملحمة المعاصرة
وبما أنّ الفحولة تنطبق على الذكر دون الأنثى، وبما أن الشعر من عمل الذكور جريًّا على مقولة الفرزدق وطبقات الشعراء، فإننا نتذكر الإقصاء غير المسبوق الذي قام به شعراء الحداثة بحق الشاعرة سنية صالح، إذ كيف لأنثى أن تدخل مملكة الذكور المسوّرة بالأسلاك الشائكة والكهرباء؟ كيف للدجاجة أن تصيح صياح الديك إذًا؟!
فلو أحصينا عدد الشاعرات اللواتي ظهرن خلال رحلة الشعر العربي الحديث مقارنة بعدد الشعراء الذكور، فإن النتيجة ستكون شبه انعدام لهن.
لكن الأمر أحيانًا يخرج عن السيطرة. ففي العام 1946 قامت نازك الملائكة بنشر قصيدة ليست على مقاس عمود الذكر المنتصب، بل على تفعيلات جديدة من شأنها أن تدمر الأعمدة الرخامية أو البازلتية للقصيدة العربية منذ نشوئها. تلك القصيدة هي "الكوليرا"، وقد كانت، حقًا، كوليرا أصابت الشعر العربي في مقتل. فقام حراس الهيكل بشن حملة كادت تكون دموية على "المؤامرة" التي تحاك ضد الموروث.
لم تكن مجرد قصيدة تجرأت على تاريخ الشعرية العربية فكسّرت أعمدته فقط، بل كانت قصيدة من امرأة! وهنا يتضاعف حجم الكارثة. لكن باعتبار أن الكوليرا معدية، سرعان ما انتشر (المرض) الجديد في جسد الشعر العربي وصار هو الأصل، معلنًا نشوء الشعر العربي الحديث.
ولا أجد حاجة لعرض المعارك التي نشبت جراء ذلك، فتاريخ الشعر يذكرها جيدًا. لكن المهم في الأمر أنها لم تكن مجرد حركة تجديدية فحسب، بل أراها تنطوي على فكرة تأنيث الشعر، إذ في تحطيم عمود الفحولة الشعرية العربية تحطيم لمقولاته الذكورية أيضًا.
في 1946، قامت نازك الملائكة بنشر قصيدة على تفعيلات جديدة من شأنها أن تدمر الأعمدة الرخامية أو البازلتية للقصيدة العربية منذ نشوئها
لكن لن يمر الأمر دون عقاب، فأن تتجرأ أنثى على نسق موغل في القدم والرسوخ، ومحمي بتاريخ كامل من التسلط والطغيان، ذلك خطير، ويجب إعادة الأمور إلى نصابها. فانبرى المنخرطون في حركة الشعر الحديث، ممثلة هذه المرة بشعراء حركة الحداثة التي انبثقت في خمسينيات القرن العشرين، ووضعوا قوانين للشعر ذكورية بحتة، وأرغموا الملائكة على التراجع عن الكثير من مقولاتها، وعاد الشعر إلى عمودية من نوع آخر، وإلى فحولية بشكل آخر.
اقرأ/ي أيضًا: محمد الماغوط.. شاعر الشفوية المضادة
كان على الشعر أن ينتظر عقودًا طويلة ليبدأ بمحاولات تأنيثه من جديد. خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي، بزغ عدد من الشاعرات يضاهي، بل يفوق ما ظهر منهن على امتداد تاريخ العرب، أو ما وصل إلينا منه. خلال هذه الفترة كانت قصيدة النثر تتسع وتتمدد، وكان شعراؤها يقفون على الجهة المقابلة لشعراء الحداثة. هؤلاء الأخيرون كتبوا القصيدة الاستعلائية، وحشدوها بقضايا كبرى: كالتحرير، والبعث، والتقدم، والتخلف، والحضارة... إلخ. كتبوا عن الإنسان القوي، القادر، السوبرمان، وأسبغوا على الشاعر صفات الألوهة والنبوة، فيما كانت الحياة اليومية للناس وتطلعاتهم وحركتهم نحو الحياة غائبة عنهم. فيما اهتم شعراء قصيدة النثر، غالبًا، بالإنسان في حركته اليومية، بالأشياء والتفاصيل التي تعني البشر في حياتهم، ربما، أكثر مما تعنيه الميتافيزيقيا ومصائر البشرية والثقوب السوداء، لم ينظروا إلى الإنسان السوبر، بل إلى الإنسان العادي، نظروا إلى الهشاشة لا الصلابة والصلافة، نظروا إلى الأرض لا السماء، إلى وحل الشارع والأرصفة، نظروا إلى الانكسارات الشخصية والعامة، لا إلى وهم الانتصار على اللاشيء... وهكذا. اتخذ ذلك كله شكل الأداء اللغوي البسيط، اتخذ شكلًا مضادًا لبلاغة الحداثة ودالاّتها ومدلولاتها السابعة، اتخذ شكلًا لغويًا هو أقرب إلى لغة الناس من لغة التقعّر والتحدّب والخطابة.
في هذا السياق ظهرت الشاعرة الأنثى بتعداد كبير وبروز لافت، إذ وجدت أن القصيدة لانت، واستدارت زواياها، وراحت تقول ما يشبه قول الأنثى أيضًا، لا من حيث التشكي والثرثرة وبث الهموم والدموع كما هي الصورة النمطية عن كتابة النساء، بل من حيث التخفّف من/ أو انهيار العجرفة اللفظية وصلافة القول وقسوته، والكتابة المضادة للطغيان والتسلّط والإرغام. وهذا يقع في الجوهر من فكرة جعل العالم أنثى، أو فكرة تأنيث القصيدة والعالم.
وإذا بدأت مرحلة التسعينيات الشعرية التي أشرت إليها بزخم أنثوي، فإن هذا لم يكن على نحو مستقل، أو منفصل، أو متمايز عن القصيدة التي يكتبها الشاعر الذكر، لم يكن ضمن حركة أو توجه نسويين، لم يكن لأهداف خاصة تتعلق بالمرأة وحقوقها ونضالاتها، لم يكن شعرًا دعويًا إذًا. بل ظهر ضمن التوجه الشعري لتلك المرحلة، ضمن الأداء اللغوي لها، ضمن ذات المقولات وذات الطروحات... بعبارة أخرى: لم يكن شعر الأنثى في تلك المرحلة يتسم بسمات خاصة، إن من حيث اللغة أو من حيث المعنى، تجعل القارئ يلاحظ، ببساطة، أنها كتابة أنثى، ربما باستثناء كاف المخاطبة! وهذا الأمر ظهر على نحو أكثر جلاء خلال الثورة السورية من خلال بعض الكتابات الشعرية المتناثرة هنا وهناك والتي تنطوي على قيمة فنية، إذ إن التطلعات المشتركة للسوريات والسوريين، وآلامهم المشتركة، والواقع المتغطرس الذي يهرس الجميع بالتساوي، جعل التعبير والأداء الشعريين مشتركًا في الكثير من الخصائص بين شعراء هذا التوجه جميعًا: نساء ورجالًا.
قد يبدو الأمر ليس جيدًا وفق وجهة نظر بعض تيارات النسوية التي تبحث عن اختلافات بين كتابة الأنثى وكتابة الرجل ناجمة عن اختلاف الظروف الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تعرّض لها كلا الجنسين. لكن، في العمق، قد يكون لهذا آثار إيجابية تتعلق بما يسمى "الجندر". إذ ضاعت المسافة التي خلقتها تلك الظروف بين الأنثى والذكر، فلم يعد هذا الأخير متحكمًا بمصائر الشعرية، ولم تعد هي واقعة ضمن أسر النمط الكتابي التي وضعتها الثقافة البطريركية فيه، فالمرأة والرجل كلاهما يكتبان ضمن الشروط ذاتها والمعايير ذاتها، وما يميز بينهما هو ما يميز بين شاعر وآخر وشاعرة وأخرى، إنه الأداء والمهارة وغير ذلك من تقويمات النقاد والمشتغلين في حقل الثقافة النقدية.
اهتم شعراء قصيدة النثر، غالبًا، بالإنسان في حركته اليومية، بالأشياء والتفاصيل التي تعني البشر في حياتهم، ربما، أكثر مما تعنيه الميتافيزيقيا ومصائر البشرية
لو امتلكت الجرأة لسميت هذه الكتابة بالكتابة الجندرية، ولكنني لا أستسيغ إطلاق اصطلاحات نهائية وتنطوي على شيء من التسرّع واحتمالات الخطأ، إذ لم يزل ثمة مسافات علينا اجتيازها لندرك ما الجديد الذي سيكون، لا سيما أننا نعيش ثورة كبرى في سورية، ومن عادة الثورات أن تغير المفاهيم والتوجهات والبنى.
اقرأ/ي أيضًا: قصيدة النثر في مواجهة التحالفات القديمة
إن خصائص الكتابة الشعرية الجديدة التي هي، كما ذكرت، ضد الطغيان، وتنتمي للأفق الدلالي لحركة الناس وأشيائهم اليومية، والمهملات، والمتروكات.. هي خصائص ذات صلة وثيقة بفكرة تأنيث العالم، وهذه ليس لها علاقة بجنس الشاعر: ذكرًا كان أم أنثى، بل لها علاقة وطيدة بهذه الخصائص إن كان الشاعر أنثى أو ذكرًا. ثمة الكثير من كتابات النساء توطد وتعمق نسق المهينة وتعمل ضمنه، وهذا عمل الذكورة ذاته حتى لو قامت به أنثى، والعكس يصح تمامًا، إذ ثمة الكثير من الشعراء الذكور يواجهون بلا هوادة ذلك النسق، فهم على هذا يعملون بلا هوادة على تأنيث العالم، إن هذه المفارقات العميقة هي ذاتها ما لم أجرؤ على تسميتها: كتابة جندرية.
اقرأ/ي أيضًا: