لا نستطيع أن نجزم أن الميزة الأساس التي طبعت حلاقة الشَّعر عند كثير من الثقافات، هي ارتباطها الدائم بالتمرّد والاستنكار. وعلى رغم ذلك، فإن باستطاعتنا أن نذهب إلى القول، سواء أكانت الموضة قصّ الشّعر أم تهذيب جوانبه أو تركه طويلًا، بأن الأمر قد دلّ في بعض الأحيان على التمرد، أو على الأقل، على "الخروج عن العوائد". حتى إن تسريحة الشعر غدت عند البعض علامةً على انتماء، و"تحديدًا لهوية". لذلك فإننا طالما رأينا في مختلف أنحاء العالم، جماعات من الشباب وطوائف وعصابات لا يجمعها في المظهر، ولا توحّد بينها إلا طريقة حلاقة شعرها. فلا شكل الملبس ولا لونه، ولا طقوس العقيدة وشعائرها، ولا نظام العيش وأسلوبه، لا شيء من كلّ هذا يميّز الجماعة عن غيرها ويوحّدها فيما بينها سوى شيء واحد، يبدو في المبدأ تافها لا قيمة له، هو طريقة حلاقة الشعر.
والواقع أن اتخاذ تسريحة الشعر لغة تعبير أمر قديم معروف. فقد اعتبرت ثقافات قص الشّعر بأكمله علامة على حداد، ورأت أخرى في تركه طويلًا دليلًا على ذلك. وعندما أخذت حلاقة الشّعر تظهر في بعض البلدان الأوروبية كان في استطاعة الحكّام والأمراء وحدهم ترك الشّعر طويلًا علامة على القوة. وما زلنا نرى، حتّى اليوم، عند بعض البرلمانات اقتران القدرة على الإقناع وإفحام الخصم بطول الشعر ووضع أقنعة على الرأس ذات تسريحة طويلة. بل إنّ كيفية حلاقة الشعر تعني الحرفة التي نمتهنها، أو الطائفة التي ننتمي إليها، أو التقليد الذي نتّبعه، أو الوطن الذي ننتسب إليه. كما أنها تتلون باختلاف الجنس والسنّ والحالة النفسية والانتماء الطبقي.
اتخاذ تسريحة الشعر لغة تعبير أمر قديم معروف. فقد اعتبرت ثقافات قص الشّعر بأكمله علامة على حداد، ورأت أخرى في تركه طويلًا دليلًا على ذلك
يحكي آباؤنا أنهم عندما أخذوا يقلّدون الأوروبيين في بعض مظاهر حياتهم من ملبس ومشرب ومأكل، لم يكونوا يجدون معارضة شديدة عند آبائهم بقدر ما كانوا يجدونها في تقليد "الأوروبيين" في كيفية حلاقة الشعر. لقد كان أجدادنا يتساهلون مع أبنائهم في ارتداء الملابس الأوروبية وانتعال الحذاء "الأجنبي" و... و... لكنهم كانوا متشدّدين أشد التشدّد في ما يتعلق بما كان يُسمّى عندنا في المغرب "الفريزي"، أي الحلاقة على الطريقة الفرنسية. فلغة الحلاقة كانت أقوى تعبيرًا من لغة الملبس والمشرب والمأكل، وكانت أكثر دلالة على الخروج عن التقليد، وتمكّن الفرْنَسة من الرؤوس والعقول والنفوس. لقد كان تقليد الفرنسيين في طريقة حلاقة شعرهم فقدانًا للهوية الثقافية، وربما نوعًا من الزندقة.
إلا أنّ حلاقة الشعر أصبحت تتخذ اليوم، وفي مناطق متعددة، شكلًا مبالغًا فيه مثيرًا للانتباه يذهب حتى رسم رسوم غريبة على شعر الرأس، ونحت أشكال وخرائط ومتاهات. وهي لم تعد تخص جماعة دون غيرها، لم تعد توحّد، بل إنّها، هي ذاتها، لم تعد تستقر على حال. ربّما لهذا السبب أصبحنا نلحظ عند كثير من شباب العالم، والذّكور منهم على وجه الخصوص، تفنّنًا لا ينفكّ يتجدّد، في إبداع طرق لحلاقة الرأس ورسم الأشكال عليه، وتغيير لون الشعر، بل ألوانه. ما يلفت النظر هنا هو السّرعة التي تتبدّل بها موضات تسريحة الشعر وألوانه. وهي ربما تكاد تفوق سرعة تبدّل موضات اللباس.
يبدو أن هذا التبدّل صار بعيدًا عن طابع التمرّد و"الخروج عن العوائد". كما أن التسريحة لم تعد مقصورة على جماعة بعينها، بحيث تمكّننا من أن نقول إنّها، على غرار ما كانت عليه اللّحَى حتى وقت قريب، تحمل دلالة بعينها، وتخصّ جماعة أو طائفة دون أخرى. ما يطبع تسريحات اليوم هو التّسابق نحو إبداع أشكال جديدة، والتفنّن في صباغة الشّعر. كأن التّسريحة تحذو حذو الوشم. والحقيقة أنها ليست بعيدة عنه، خصوصًا بالكيفية التي صارت تتمّ بها. فهي أيضا رسم أشكال على جلد الرأس بتوظيف شعره. إنها وشوم خارجية، وكتابة على جلد الرأس، ميزتها هي قابليتها الدائمة للتبدّل، واتخاذها لدلالات أخرى ليست بعيدة عن دلالات الوشوم، وكل كتابة على الجسد.