صدر عن سلسلة "ترجمان" في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب اضمحلال الإمبراطورية الساسانية وسقوطها - التحالف الساساني - الفرثي والفتح العربي لإيران، وهو ترجمة أنيس عبد الخالق محمود لكتاب بروانة هوشناگ بُرشريعتي.
لم تستهدف الجيوش العربية القضاء على الساسانيين بل الوصول إلى مراكز التجارة في آسيا الوسطى من طريق الأراضي الفارسية
يعدّ هذا الكتاب من أكثر الكتب إثارة من الناحية الفكرية حول بلاد فارس القديمة، وإضافةً مهمة وكبيرة في حقل الدراسات الساسانية، من حيث هو ثورة معرفية ذات أهمية بالغة في ميدان البحث التاريخي الأكاديمي الجاد الرصين. فهو يعرض إجابة معاصرة وجريئة عن لغز ومعضلة قديمة في نظر المفكرين والمؤرخين، عن سبب الانهيار السريع و"الكارثي" للإمبراطورية الساسانية التي بدت قوية وآمنة في القرن السابع الميلادي أمام جيوش الفاتحين العرب. ويتكون هذا الكتاب (728 صفحة بالقطع الوسط، موثّقًا ومفهرسًا) من ستة فصول.
اقرأ/ي أيضًا: تاريخ الصراع السني الشيعي قبل الإسلام
يلقي الفصل الأول، بعنوان "مقدمات"، نظرةً عامّةً عن الأرشاكيين الفرثيين، وهو مقدمة تعريفية مفيدة جدًا لوضع فرضية الدراسة.
إعادة نظر
تتناول بُرشريعتي، في الفصل الثاني "إعادة النظر في الكيان السياسي الساساني: التحالف الساساني - الفرثي"، التحالف الساساني - الفرثي، وتفصّل القول في الطريقة التي مارست بها البيوتات الفرثية دورها العسكري في الإمبراطورية الساسانية، ولا سيما في الحروب البيزنطية - الفارسية بين عامي 603 و628م، والفتح العربي لإيران؛ وهو الدور الذي أصبح في ما بعد مصدرًا للنزاع الفئوي بين البيوتات الفرثية من جهة، ومع الساسانيين من جهة أخرى. وترى أن الطريقة التي تعامل بها الساسانيون مع الفرثيين أدّت إلى ظهور انقسامات حادّة في التحالف بينهما، وزرع بذور التفكك والفوضى في الإمبراطورية؛ ليعجّل انهيارها على أيدي الفاتحين العرب. وتسلّط المؤلفة الضوء أيضًا على تطوّرَين مهمَّين كان لهما دور كبير في انهيار الإمبراطورية: إصلاحات كسرى الأول أنوشروان والحروب البيزنطية - الفارسية؛ إذ ترى أن الهدف من تلك الإصلاحات - إلى جانب القضاء على الفسادَين المالي والإداري - كان القضاء على نفوذ البيوتات الفرثية وتحجيم دورها. وقد أفضى هذا بدوره إلى إدخال الإمبراطورية في حروب مع البيزنطيين استمرت ثلاثة عقود؛ فأنهكتها واستنزفت قواها.
وتبحث المؤلفة، في الفصل الثالث، "الفتح العربي لإيران"، في الفتح العربي لإيران، وتقول إن دراستها تسلسُل الأحداث في المرحلة الأخيرة للإمبراطورية الساسانية والفتح العربي الإسلامي مبتكرةٌ من الناحية المنهجية. وتهمل هنا نظام التاريخ الهجري الوارد في كتب الفتوح؛ لأنه سبّب كثيرًا من الإرباك والخلط لدراسة تاريخ صدر الإسلام. ثم تناقش الإشكاليات التي تضمنتها معظم روايات الفتح، وتفنّد التواريخ التي وضعها الكتّاب المسلمون الأوائل. وتؤكد أن الرسول محمدًا كان لا يزال حيًّا عند فتح إيران؛ وأن معركتَي الأبُلّة والمذار - اللتين يؤرخهما معظم المؤرخين بين عامي 633 و634م - حدثتا خلال حكم أردشير الثالث.
ويترتب على هذا الاستنتاج سؤال مهمٌّ: هل كان الرسول محمد هو من خطط لفتح الإمبراطورية الساسانية؟ تؤكد أن بالإجابة عنه وعن غيره من الأسئلة المشابهة، تظهر أسئلة وإشكالات جديدة. غير أن التواريخ الجديدة التي حددتها المؤلفة ليست نتيجة اجتهادات عشوائية، بل نتيجة تناقضات بين التسلسل الزمني الرسمي وقوائم الملوك والملكات الذين سكُّوا عملات بتواريخ تتجاوز حكمهم، أو حكمهم المفترض. في هذا الفصل أيضًا، تذكر المؤلفة أن الجيوش العربية لم تستهدف القضاء على الساسانيين بل الوصول إلى مراكز التجارة في آسيا الوسطى من طريق الأراضي الفارسية، وترى أن الفتح العربي ليس سوى صورة ملوَّنة للأحداث رسمها الكتّاب المسلمون الأوائل، شارحةً التناقضات الموجودة في كتب التاريخ العربية المعروفة. وتقول إن تقسيم تاريخ إيران إلى عصر ما قبل إسلامي وعصر إسلامي هو نقطة تحوُّل كاذبة وانقطاع مفاجئ في الأحداث ليس هناك ما يدعمهما من الأدلة.
المشهد الساساني والثورات
في الفصل الرابع، "الكيانات السياسية لأهل البيوتات في طبرستان"، تبحث بُرشريعتي في فتح طبرستان، وطبيعة الولاءات بين أهل البيوتات بعضهم تجاه بعض من جهة، وتجاه جيش الفتح العربي من جهة أخرى. وتؤكد أن التنافس بين الأمراء الفرثيين كان أفضل فرصة لنجاح العرب وتحركهم التدريجي نحو الشرق. وتقول إن الطريقة التي تمّت بها عملية الفتح العربي ودبلوماسية العرب في إيران هي أنهم كانوا يفضِّلون ميمنة الجيش أو ميسرته في المعركة دائمًا لا القلب. وبعد أن أدركوا المنافسات القوية بين أهل البيوتات، استغلوها استغلالًا كاملًا.
الطريقة التي تمّت بها عملية الفتح العربي ودبلوماسية العرب في إيران هي أنهم كانوا يفضِّلون ميمنة الجيش أو ميسرته في المعركة دائمًا لا القلب
وتهتم المؤلفة، في الفصل الخامس، "المشهد الديني الساساني"، بالتيّارات الدينية في إيران خلال العصر الساساني، وفيه تطرح إحدى فرضياتها الرئيسة: الانقسام السياسي الساساني - الفرثي تناسخ في العوالم الروحانية، في وطن البهلويين، فرثاوا وميديا.
اقرأ/ي أيضًا: التاريخ الضائع للتسامح الثقافي
أما في الفصل الأخير، "ثورات أواخر العصر القديم في خراسان وطبرستان"، فتحلل بُرشريعتي المظاهر الميثرائية لثورة بهرام جوبين المِهْراني في نهاية القرن السادس، واستمرار الأفكار الميثرائية في ثورتَي بهافريد وسُنباذ في منتصف القرن الثامن. وتثبت أن تلك الثورات كشفت عن أدلة دامغة على استمرار عبادة مِهْر في المناطق البهلوية.
يذكر أن بروانة هوشناگ بُرشريعتي باحثة أمريكية من أصل إيراني، حائزة البكالوريوس في علم الاجتماع من جامعة نيويورك، والماجستير والدكتوراه في التاريخ من جامعة كولومبيا. تتركز أبحاثها في الجوانب الثقافية والاجتماعية لتاريخ الشرق الأوسط والقوقاز وإيران وآسيا الوسطى في أواخر العصور القديمة والعصور الوسطى. عضوٌ في عدد من المؤسسات العلمية والثقافية العالمية. لها العديد من الأبحاث المنشورة في مجلات متخصصة بتاريخ الأديان اليونانية والرومانية القديمة واليهودية وعلاقاتها بالأديان الإيرانية القديمة.
أما أنيس عبد الخالق محمود فأستاذ التاريخ الحديث في كلية الآداب، الجامعة المستنصرية ببغداد. حائز الدكتوراه في قسم التاريخ، كلية الآداب، جامعة بغداد. له نحو 15 كتابًا و20 بحثًا بين تأليف وترجمة في ميدان التاريخ العثماني وأدب الرحلات والاستشراق.
اقرأ/ي أيضًا: