ألترا صوت – فريق التحرير
أسواق نخاسة رقمية وعالمية تتفرّد بهوية مستخدمين الشبكة العنكبوتية وتُسلّعها. وضمنها، تُعرّي شركات الاتّصال والتكنولوجيا هويّة الفرد ووجوده وذاكرته أيضًا، كفيسبوك وتويتر وأمازون وغوغل ومايكروسوفت التي تُجرّد العالم من هوامشه، بحيث يبقى بعيدًا عن التأويل. هذا بالضبط ما يعني مارك دوغان ومعه كريستوف لابي في كتابهما الصادر حديثًا بلغة الضاد عن "المركز الثقافي للكتاب" تحت عنوان "الإنسان العاري: الدكتاتورية الخفية الرقمية"، ترجمة سعيد بنكراد.
عالم الحياة الفعلية لا يُدرك إلّا من خلال مُضاف افتراضي يُعمّق غربة الفرد عن نفسه وعن واقعه
السيميائي المغربي كتب في تقديمه لترجمته للكتاب: "لا يتعلّق الأمر بتمثيل مزيّف للواقع، كما كانت تفعل ذلك الأيديولوجيا قديمًا، بل هو الإيهام الدائم "بأنّ الواقعي ليس هو الواقعي" كما يقول جان بودريار، فعالم الحياة الفعلية لا يُدرك إلّا من خلال مُضاف افتراضي يُعمّق غربة الفرد عن نفسه وعن واقعه، ويستدرجه إلى وحدة "ينتشي" بها وسط الجموع. إنّ الواقعي ناقص، وتلك طبيعته، كما هو الإنسان ناقص أيضًا، وتلك عظمته وذاك مصدر قوّته. ولكنّ النقصان في الحالتين معًا، لا يُمكن أن يعوّض بالافتراضي".
اقرأ/ي أيضًا: غوغل.. الأخ الأكبر الجديد
جاءت مقدّمة سعيد بنكراد متّسقة مع تحذيرات مارك دوغان وكريستوف لابي مما أطلقوا عليه تسمية "طُعم المجانية"، و"ضرورة الاتّصال"، باعتبارهما وسيلةً لوضع الفرد تحت المراقبة الشاملة للشركات المذكورة أعلاه. ويرى المؤلّفان في هذه الشركات "محاكم تفتيش" جديدة، توهم العالم بأنّ وفرة المعلومات التي تحصدها، وسيلة رقمية لبناء حياة أفضل. وتحت هذه الذريعة تحديدًا، تمكّنت، بخفّة وبراءة ظاهرة، من وضع الإنسان تحت المراقبة الدائمة. بل ووضعت أيضًا حول معصميه، وفقًا لدوغان ولابي، قيود غير مرئية تُسبِّب ألمّا لا يُمكن الانتباه إليه، أما غايتها، فانتزاع إنسانية الإنسان منه.
الباحثان الفرنسيان تحدّثا في كتابهما عن علاقة تربط هذه الشركات بالاستخبارات الأمريكية، دون أن يكون القصد أنّها تأسّست تحت إشرافها، أو خدمةً لمصالحها، وإنّما الإشارة إلى علاقة وثيقة بينهما، يُمكن تعريفها باعتبارها تحالفًا يتنكّر، لجهة ما ينطوي عليه، لمبادئ الديمقراطية، مقابل المعلومة. فالأخيرة أشدّ أهمية وفاعلية، سياسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا. مما يؤكّد أنّ الصدام الحاصل بين الشركات التكنولوجية وأجهزة السلطة الأمريكية، إنّما هو مجرّد تمويه لعلاقة يختلط فيها المال بالتكنولوجيا، وكلاهما بالأنشطة الاستخباراتية. ويضرب دوغان ولابي هنا مثالًا يتجسّد في شركة "غوغل" التي تنسخ بيانات مستخدميها بصورة مخيفة، بالإضافة إلى عملية تحليل إيميلاتهم، وهي عملية توليها إدارة الشركة أهمّية شديدة.
في هذا السياق، يُشير لابي ودوغان إلى أنّ العلاقة بين الأجهزة الاستخباراتية والشركات التكنولوجية بدأت تأخذ طابعًا أشدّ صلابة حينما تبنّيا معًا دعاية "محاربة الإرهاب"، وحوّلاها أداةً رفعت من رصيد امتيازاتهما، وزادت من قدرتهما على المراقبة وحصد المعلومات، كما وكثّفت من ديناميكية نشاطها هذا. ويتحدّث الكاتبان عن دور مهمّ لعبته شركات ما يُعرف بـ "وادي السيليكون"، أو شركات الـ "Big Data" في صناعة انتصار أوباما في انتخابات سنة 2012. ويربط الفرنسيان هذا الدور بطموح هذه الشركات في التحكّم بالطبقة السياسية الأمريكية، وذلك من خلال ما تحصده من معلومات، وما تملكهُ من قدراتٍ في التأثير، سياسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا. أمّا نتيجة هذا الطموح، والعلاقة المذكورة أعلاه، فهي تفريغ الديمقراطية الأمريكية من جوهرها.
العلاقة بين الأجهزة الاستخباراتية والشركات التكنولوجية بدأت تأخذ طابعًا أشدّ صلابة حينما تبنّيا معًا دعاية "محاربة الإرهاب"
هكذا، تكون الثورة الرقمية وما أنتجته، أي الشركات التكنولوجية، قد نجحت في مهمّة التهام العالم، وهضمه. بالإضافة إلى فرضها مجموعة أفكار مفادها أنّ المستقبل مُعادلة تتحكّم فيها المعطيات والبيانات المُخزّنة عند الشركات المذكورة أعلاه. عدا عن مفهوم "الاستباق" الذي يصير بموجبه العقاب على النيّة، لا على الجريمة. وعلى التوقّعات، لا على السلوك المشبوه. وهكذا إلى أن يُعلن الانتهاء من عملية تجريد الإنسان من هوامشه، وجعله دون جوانب غامضة، وذلك استكمالًا لمهمّة فصله عن ذاته، ووضعه تحت مراقبة مُطلقة، ورقابة شاملة.
اقرأ/ي أيضًا: المنصّات فقاعة وهمٍ
يشدّد مارك دوغان وكريستوف لابي في كتابهما هذا، على ضرورة إعادة الإنسان إلى دائرته، وعوالمه الخاصّة، وذلك عبر استعادة توازنه الذي يشترط مجابهة المنطق الاستعمالي والانعزالي، والوقوف في وجه كخطوة أولى من عملية حماية الخصوصية الإنسانية، والحدس البشري، والذكاء الفوضوي. أشياء بديهية ولكنّها شديدة الأهمية، إلى درجة أنّهما، دوغان ولابي، يعتبرانها شروطًا لا بدّ منها للبقاء على قيد الحياة.
اقرأ/ي أيضًا: